رفع الدعم “غير الفجائي”.. عون ودياب وباسيل يعلمون

المحرر الاقتصادي

مؤلمٌ قرار المصرف المركزي تأمين الاعتمادات اللازمة المتعلقة بالمحروقات معتمدًا الآلية التي كان يعتمدها في السابق لكن باحتساب سعر الدولار على الليرة اللبنانية تبعًا لأسعار السوق. فهو سيفاقم معدلات التضخم ويزيد الضغوط على سعر صرف الليرة. لكنه متوقعٌ منذ فترة ولم يأت فجائياً أو مباغتاً كما حاول النائب ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل تسويقه في مؤتمره الصحافي الذي شنّ فيه حملة شعواء على حاكم مصرف لبنان رياض سلامه ووصف إجراءه هذا بأنه “جريمة جماعية في حق الشعب اللبناني” رغم أنه كان على علم مسبق به، وأنه “هو من يقرر وحيداً سياسة الدعم منذ 17 تشرين في وقت كنا نطالب ببدء وضع خطة متكاملة تدريجية لرفع الدعم”.

سياسة غسل اليدين التي مارسها باسيل في مؤتمره الصحافي والتي استعار خلالها مواد من قانون النقد والتسليف ومن الدستور ليبرئ نفسه وتياره ويجرّم سلامه، انتقلت إلى قصر بعبدا حيث “استدعى” الرئيس ميشال عون حاكم مصرف لبنان واجتمع به في حضور وزيري المالية غازي وزني والطاقة ريمون غجر، ليستفسر منه عن قراره الذي كان سلامه أبلغه الأربعاء إلى المجلس الأعلى للدفاع (الذي يرأسه عون)، وكأن هذا الأخير فاته ما قاله حاكم المصرف المركزي. ولن ندخل هنا في تفاصيل دستورية انعقاد المجلس الأعلى في ظل تغيب رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب عن الحضور.

لم يصل اجتماع بعبدا إلى نتيجة. فسلامه قال إنه وصل إلى التوظيفات الإلزامية، مصرّاً على أنه بحاجة إلى قانون مشرّع من مجلس النواب من أجل الاستمرار بالدعم. وهو أمر يصعب بلوغه في ظل رفض معظم الكتل السياسية في مجلس النواب المس بالاحتياطي الإلزامي الذي هو عبارة عما نسبته 14 في المئة (كانت النسبة 15 في المئة وقلصها المصرف المركزي إلى 14 في المئة مؤخراً في التعميم 158) من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية في المصارف المودعة في مصرف لبنان. وتبلغ اليوم موجودات مصرف لبنان بالعملات 20.06 مليار دولار من ضمنها محفظته من سندات اليوروبوندز التي يقدّرها المصرف المركزي بـ5.03 مليارات دولار، بمعنى أن موجوداته باتت تبلغ حوالي 15 مليار دولار، منها التوظيفات الإلزامية التي يبلغ حجمها وفق هذه المعادلة 15.078 مليار دولار. ما يعني أن مصرف لبنان لم يعد يملك مالاً للدعم من خارج التوظيفات الإلزامية.

في المقابل، طلب عون من سلامه التنسيق مع السلطة الإجرائية في أي قرار يتخذه، والتزام قرارات مجلس الوزراء التي حددت فتح الاعتمادات على سعر ٣٩٠٠ ليرة، في إشارة إلى الموافقة الاستثنائية التي صدرت في 25 حزيران الماضي لتأمين تمويل استيراد المحروقات على أساس تسعيرة 3900 ليرة، بدلاً من 1500 ليرة للدولار الواحد، استناداً إلى المادة 91 من قانون النقد والتسليف.

وفي الاجتماع الوزاري الذي عقد لبحث قرار مصرف لبنان، واظب دياب على هجومه المباشر ضد سلامه الذي لا يزال يمارسه منذ توليه رئاسة الحكومة، معتبراً أن حاكم مصرف لبنان أخذ القرار “منفرداً”. لكنه، وهو العالِم الآخر بقرار “المركزي” والذي تلكأ منذ العام الماضي في التوصل إلى شبكة أمان اجتماعية لحماية المواطنين، دعا إلى “العمل بكل طاقاتنا من أجل احتواء قرار رفع الدعم وتقليل أضراره الكبيرة”.

وكان دياب وجّه كتاباً إلى وزني​ يطلب فيه إبلاغ حاكم ​مصرف لبنان​ أن “قراره رفع الدعم​ عن ​المحروقات​ مخالف للقانون الذي صدر عن ​مجلس النواب​ بشأن ​البطاقة التمويلية​، ومخالف لسياسة​ الحكومة بترشيد الدعم”. فيما اعترض رئيس ​الاتحاد العمالي العام​ ​بشارة الأسمر،​ على “رفع الدعم​ عن ​الدواء​ و​المحروقات​ بغياب خطة بديلة”، مهدّداً بأنه “إن لم يتم التراجع عن قرار رفع الدعم، فسندعو الموظفين في القطاعين العام والخاص إلى عدم الالتحاق بأعمالهم”.

بيانات “المركزي”

في البداية، يجب القول إن سياسة الدعم لا يقررها حتماً المصرف المركزي بل هي في العادة من مسؤولية الحكومة التي تنصلت من واجباتها ورمت هذه الكرة في ملعب مصرف لبنان الذي بدأ بدعم المواد الأساسية منذ أيلول من العام 2019 عندما بدأت الازمة الاقتصادية تشتد. لكن سياسة الدعم كلّفت “المركزي” ما يقارب الستة مليارات دولار، ما دفع سلامه إلى إمهال الحكومة حتى أيار الماضي للبت في مصير الدعم وإصدار بيانات تفصيلية عن مبالغ الدعم التي يدفعها والتي تستنزف من احتياطاته بالعملات الأجنبية وتوجيه رسائل مباشرة إلى المسؤولين المعنيين لاسيما رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي التقاه مرات عدة في السابق وأبلغه صراحة عدم قدرة المصرف المركزي على الاستمرار في تمويل الدعم الذي لا يؤتي أهدافه في التخفيف عن كاهل اللبنانيين، كون معظم الدعم يتبخر عبر تهريب المواد الأساسية لاسيما المحروقات والأدوية إلى سوريا وبلدان أخرى أو تخزينها.

وكان دياب رفض رفع الدعم من دون أن يواكب هذا الأمر إصدار بطاقة نقدية. هذه المقاربة أعلن عنها العام الماضي في وقت لم تقر البطاقة إلا في تموز من دون أن تسلك طريقها إلى التنفيذ لعدم توافر مصادر تمويلها، في ظل رفض مصرف لبنان تمويلها ووسط تهديد نقابة المحامين بملاحقة مصرف لبنان والحكومة إن تمّ المسّ بالإحتياطي الإلزامي. مع الإشارة إلى أن إقرار هذا القانون جاء بعد محاولة الحكومة التنصل من مسؤولياتها، فأرسلت في نهاية العام الماضي أربعة اقتراحات لرفع الدعم إلى المجلس النيابي الذي رفضها جميعها وطلب منها أن توحد اقتراحاتها في نص وحيد وترسله مجدداً ليصار إلى درسه. كما أتى بالتزامن مع تعهد حكومة دياب المستقيلة بترشيد الدعم، لينخفض الدعم الاجمالي إلى 2.5 ملياري دولار سنوياً.

وكان مصرف لبنان ألحق بيانه الأول حول رفع الدعم عن المحروقات بآخر توضيحي قال فيه “عطفاً على البيان الصادر عن مصرف لبنان المتعلق بالمحروقات، فإن مصرف لبنان كان قد راسل الحكومة منذ شهر آب 2020 أي منذ نحو سنة، مؤكداً أنه لا يمكن قانوناً المساس بالتوظيفات الإلزامية بالعملات الأجنبية لديه. وقد أكد ذلك مراراً بمراسلات أخرى وفي كافة الإجتماعات التي عقدها مع المراجع المعنية بسياسة الدعم مؤكداً أن المساس بهذه التوظيفات يتطلب تدخلاً تشريعياً”. أضاف البيان “في المقابل، وعلى الرغم من أن مصرف لبنان قد دفع ما يفوق الـ 800 مليون دولار للمحروقات في الشهر المنصرم، وأن فاتورة الأدوية وغيرها من المواد الضرورية قد تضاعفت، فلا تزال كل هذه المواد مفقودة من السوق وتباع بأسعار تفوق قيمتها حتى فيما لو رفع الدعم عنها! ما يثبت ضرورة الانتقال من دعم السلع، التي يستفيد منها التاجر والمحتكر، إلى دعم المواطن مباشرة وهو الأمر الذي يحفظ كرامة المواطنين في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد”.

وفي نهاية تموز الماضي، أي بعد شهر على إقرار البطاقة النقدية من دون أي تحرك ملموس وفي الوقت الذي كانت اللجنة الوزارية المكلفة بحث تمويل البطاقة تعقد اجتماعات روتينية ومتباعدة في التوقيت، أصدر سلامه بياناً مفصلاً تحت عنوان “مصارحة اللبنانيين ببعض الحقائق المتعلقة باستيراد المازوت والبنزين والفيول”، لم يكن الأول من نوعه. فكان قد سبقه في منتصف شهر حزيران بيان مشابه، فنّد فيه مصرف لبنان المبالغ المدفوعة على استيراد الأدوية والتي بلغت لغاية منتصف هذا العام 536 مليون دولار من أصل طلبات استيراد بقيمة 1.5 مليار دولار، قبل أن يعود ويخصص 400 مليون دولار إضافية، في حين أن كامل ما دفع في العام 2020 على الدواء بلغ 1.173 مليار دولار.

كذلك الأمر بالنسبة إلى المحروقات حيث أظهر بيان “المصارحة” أن “المركزي” باع في شهر تموز وحده 293 مليون دولار، وأعطى موافقات سابقة بـ 415 مليون دولار، أي ما مجموعه 708 ملايين دولار لاستيراد البنزين والمازوت. وإذا ما أضيف الرقم إلى 120 مليون دولار لاستيراد الفيول إلى كهرباء لبنان، فان مجمل الدعم يصل إلى 828 مليون دولار لاستيراد المحروقات. وذكر البيان أنه “رغم كل الدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان وإصراره على محاولة حماية الأمن الاجتماعي للبنانيين وتأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم رغم حراجة الوضع المالي، لا يزال اللبنانيون يعانون الشح في مادة المازوت، على سبيل المثال، إلى حد فقدانها بالسعر الرسمي المدعوم، ونشوء سوق سوداء يتم من خلالها ابتزاز اللبنانيين في أبسط حقوقهم، ومنها الكهرباء عبر المولدات، وهذا ما يرتّب نتائج خطرة على المستشفيات وعلى الأمن الاستشفائي والغذائي للبنانيين، بسبب إصرار التجار إما على التهريب وإما على التخزين للبيع في السوق السوداء، وذلك بفعل عدم اتخاذ إجراءات صارمة من المعنيين لوقف معاناة المواطنين”. وأشار سلامه إلى أن “الحلّ لا يكون بمحاولة تحميل مسؤولية هذه الأزمات الحياتية إلى مصرف لبنان الذي قام ويقوم بواجباته ولم يتأخر عن تأمين التمويل، بل الحلّ هو بأن يتحمل المعنيون مسؤولياتهم لتأمين إيصال هذا الدعم إلى المواطنين مباشرة عوض أن يذهب إلى السوق السوداء”.

كان من المفترض أن يشكل بيان مصرف لبنان هذا بحد ذاته إخباراً بحق المهربين والمخزنين. فالأرقام المنشورة تمكّن المراقبين في الإدارات المعنية والقضاء من ملاحقة المعنيين في قطاع المحروقات من شركات ومحطات وموزعين، وبالتالي ضبط عملية التوزيع وإيصالها إلى مستحقيها بالأسعار المدعومة.

والمعلوم أن مسألتي التهريب والاحتكار نوقشتا أكثر من مرة على أعلى المستويات لاسيما المجلس الأعلى للدفاع الذي أعلن عن تدابير وإجراءات يجب تنفيذها لمنع التهريب إلى سوريا، ولكن لا يزال هذا الخط يعمل على قدم وساق.

وفي حزيران الماضي، عقب إقرار الموافقة الاستثنائية على اقتراح وزير المالية غازي وزني، بما يسمح بتأمين تمويل استيراد المحروقات على أساس تسعيرة 3900 ليرة، شدّد سلامه في بيان له على الحاجة إما إلى التجاوب الحكومي أو إلى إقرار الإطار القانوني المناسب الذي يسمح لمصرف لبنان باستعمال السيولة المتوفرة في التوظيفات الإلزامية مع التزام الحكومة بإعادة أي أموال مقترضة من مصرف لبنان ضمن المهلة المحددة قانوناً في المادة 94 من قانون النقد والتسليف.

صحيح أن رفع الدعم عن المحروقات مؤلم لكنه ضروري في ظل تنصل الدولة من القيام بواجباتها التي ينص عليها الدستور، ووسط استمرار استنزاف احتياطات مصرف لبنان التي تدخل فيها أموال اللبنانيين. ففي مذكرة أعدها البنك الدولي عن هذا الملف، يرى أنه “نظراً لأن الدعم الحالي لواردات السلع الأساسية عبر سوق الصرف مشوَّه ومُكلف (تبلغ كلفته 287 مليون دولار شهريًا) وتراجعيّ (أي أنه يعود بالفائدة على المستهلكين الأكثر ثراءً بشكل غير متناسب)، فإن رفعه واستبداله المحتمل ببرنامج أكثر فعالية وكفاءة يستهدف الفئات الفقيرة من شأنه أن يُحسِّن ميزان المدفوعات في لبنان”. وبالتالي، فان سياسة الدعم الحالية تحرق الدولارات من دون وجود خطة انقاذ توقف النزيف الاقتصادي وتضع حداً لمعاناة اللبنانيين وتشكل انطلاقة لبدء لبنان الرسمي بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي. كما أن دعم المواطن كما جاء في بيان مصرف لبنان، يكون بتوفير المصادر المالية لتمويل البطاقة النقدية كي تستفيد منها أكبر شريحة ممكنة من المواطنين المتألمين اليوم، وفي تحمل الدولة مسؤولياتها من خلال وضع استراتيجية شاملة لاستمرار إمدادات المواد الحيوية للبلد.

شارك المقال