مهرجانات هذا العهد

الراجح
الراجح

تدقّ الطبلة فتتلمس أذنيك حماية لإحدى الطبلتين. يلبط الأول على الطبل (يرفس في العربية الفصحى) يلبّط الآخر على “الدربكة” كأنه حرر القدس او يُلَعّب رأس الأسد بين يديه، فتقول قيامة وقامت.

يهتز “التخت الشرقي” كله، تستعيذ بالله وتردد أنها معركة ستالينغراد قد انطلقت من جديد والحامي الله.

يرد الدف على الطبل ويزمجر المزمار وتلعلع مكبرات الصوت كأن الرئيس جمال عبد الناصر يلقي خطاب تأميم قناة السويس حسبما قال يوماً الصحافي ابراهيم سلامة.

يتقدم منك صاحب الملهى، يحدثك فلا تسمع منه كلمة. يبتسم باعتباره أسقط خط بارليف، يُفهمك بأن “البروغرام” في أوله. وفجأة يطلع فوق أذنيك صوت كالضفدعة قبيل لحظة الانجاب فيقدمه مدير المسرح بعبارات أين منها تقديم غوبلز للفوهرر أو رثاء الأخطل الصغير لسعد زغلول، “مطرب الشباب العندليب صاحب الصوت النقي الأستاذ…” ويهبط الأستاذ، والهبوط هنا مقصود منه النزول من كواكب أخرى (كزحل وعطارد)، طول المغني صعب التقدير، بذلته بلون البرتقال تذكرك بعلم تيار “الاصلاح والتغيير”…

تتكرر المأساة عينها خرير وقرقعة لآلات الفتك بالأعصاب التي كانت تسمى في الماضي بآلات الطرب، يترقوَص الأستاذ إرضاءً للجمهور الذي يكاد لا يراه فيذكرك بـ”أحدهم” ويستدير موهماً الحضور بأنه يوجه الموسيقيين (حتى لا يخطئون في النوتة وتؤثر في صوته التنكي) ويطلع موال بصوت أين منه أصوات “معّازة عينطورة قبل أن تصبح بلدة منزوعة السلاح”، وهذا أيضاً حسب ابراهيم سلامة، ويطوف صاحب الملهى المبتسم حول الطاولات مطمئناً الى سلامة الحضور فيذكرك بالأمن الخاص بأصحاب المنظومة الحاكمة…

في هذه الأثناء، تسمع هتاف المغني والموسيقيين فتتلفت واذ بأحد المرشحين للانتخابات قد شرّف المكان بعد أن ربح عدة حواصل حسب شركات الإحصاء مصحوباً طبعاً بعشرة أو خمسة عشر مرافقاً لأنه معرّض أمنياً، فتراه وهو يدخل يتفحص نوعية الجمهور مقنعاً بقناع الوقار وعظمة المسؤولية. فيشير بيديه الى المرافقين ثم يستريح لكنه لا يريح. وهنا أيضاً يذكرك بالمواكب التي رأيناها مؤخراً تجول على جميع الأراضي اللبنانية المحررة، هنا ترى صاحب الملهى لا يفارقه ثانية يلتصق به كالذبابة البقرية القبرصية. جلس موكب المرشح، وبدأ موكب العمال والعاملات، منهم مَن يحمل النرجيلة ولوازمها ومنهم مَن يرحب به منحنياً ومنهن مَن تقبل وجنتيه، وترى كبير الحرس من المرافقين “يسحب” النفس الأول، ثم يقدم النرجيلة الى المرشح. مرافق ثانٍ يهمس في أذنه فتراه يدبّل عينيه ويسرح في تفكير عميق تظن أنه الفريق سعد الدين الشاذلي ليلة العبور في أكتوبر المجيد. وفجأة تعرف السبب…

أنثى بلقب راقصة اسمها فاتن تتمختر على خشبة المسرح يميناً وشمالاً كأنها لاعب في فريق برشلونة أو أنها تبحث عن طنجرة نسيت أن تغسلها قبل عودة ربة المنزل حسب الصديق الراحل الصحافي سمير السعداوي…

وتدق الطبلة ويلبّط محمود “الدربكة” وتلعلع “أجراس العودة” ثم ينزل الطبل والطبال الى ساحة الملهى وبين الجمهور ما يذكرك بمهرجانات عدد من المرشحين.

فماذا عساك تقول أو تفعل سوى أن تردد المجد والخلود لكل مَن ظلمتهم قبل تلك الليلة من مغنّين من الصف الثالث وما دون؟ أما لماذا تراني أكتب عن هذه التجربة؟ فلا لشيء لو لم أتابع مهرجانات إعلان العديد من اللوائح الانتخابية والتي لم أجد لاحقاً أفضل منها سوى الصمت الانتخابي. لا مزيد…

شارك المقال