لبنان – الخليج… هذا ما فعله الأولاد!

أنطوني جعجع

لا شك أنّ ثمة “عقلاً شيطانياً” يدير الحياة السياسية في لبنان عشية الانتخابات النيابية والرئاسية، ويمضي قدماً بعيداً من أي حدود أو ضوابط أو معايير حتى لو جاء بعد ذلك الطوفان.

إنه العقل الذي يتبع سياسة الإلغاء على أكثر من موقع، بدءاً بالرئاسات الثلاث وانتهاء بتوزيع القوى في البرلمان المقبل، متّبعاً ما توافر من أساليب وكمائن ومكائد وحتى مواجهات مباشرة، على غرار ما وقع في الطيونة في الرابع عشر من تشرين الأول الماضي.

الواقع أنّ حرب الإلغاء هذه تدور على الجبهتين المسيحية علناً والشيعية ضمناً، وإلى حد ما على الجبهة السنّية، وذلك بإشراف أو تشجيع إقليمي – دولي يتماهى مع الكباش القائم على الجبهة الأميركية – الإيرانية في مكان والجبهة الإيرانية – السعودية في مكان آخر.

والواقع أيضاً أنّ أطراف الصراعات الداخلية في لبنان يدركون أنّ الحرب التي يخوضونها توازي في حدّتها الحرب العسكرية الدائرة في مأرب اليمنية، وتلك الديبلوماسية المرتقبة في فيينا، وأنّ الفوز بها سيكون فوزاً أكبر من لبنان، وأنّ الهزيمة ستكون هزيمة أكبر منه أيضاً.

وانطلاقاً من هذا المشهد، يمكن أن نقرأ بعض خلفيات ما يجري على الساحة اللبنانية منذ تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، وذلك عندما انتقل “حزب الله” من موقع “المقاوم” إلى موقع “المغامر” بأمن لبنان. في وقت بدأت أصابع الاتهام تشير إلى دور له في انفجار العنبر 12 أو التسبّب بتفجيره، سواء عبر الحرق غير المدروس أو عبر غارة اسرائيلية لا يجرؤ أحد على الاعتراف بها.

من هنا، يمكن تفهّم الأسباب التي فجّرت أحداث الطيونة في محاولة من “حزب الله” لصرف الأنظار عما يتراكم في قصر العدل، والوصول إلى تسوية ما تقوم على معادلة “توازن الحصارات”، وتعمل لسحب الرؤوس الكبيرة من دائرة الاتهام وسحب “الحزب” وقيادييه من أي مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن كارثة تهدّد بسقوطه في وجدان قسم كبير من الرأي العام المسيحي.

والواقع أنّ “الحزب” يعرف أنّ الرئيس ميشال عون و”التيار الوطني الحر” لم يلعبا الدور الذي كان يراهن عليه لإبعاد التحقيق من رجال الضاحية الجنوبية، لا بل شعر بأنّ الفريقين يسعيان إلى خلق أرضية جديدة تستهدف استرضاء الأميركيين من جهة، واستقطاب الناخبين المسيحيين الذين شعروا بأنّ التحالف مع “المقاومة الإسلامية” لم يؤتِ أي ثمار يعتدّ بها وعلى كل المستويات.

وأكثر من ذلك، يرى المراقبون أنّ عون و”التيار” يعملان من خلال الصراع القائم مع الرئيس نبيه برّي، لاستغلال تحقيقات القاضي طارق البيطار، سعياً إلى انتزاع صوت حركة “أمل” في الانتخابات الرئاسية المقبلة لمصلحة النائب باسيل، مقابل التصويت على سحب ملف النائبين علي حسن الخليل وغازي زعيتر إلى محكمة البرلمان.

لكنّ الحرب الأشرس تقع في مكان آخر، وتحديداً على جبهة باسيل – سليمان فرنجية، وهي الحرب التي أنتجت من حيث يدريان أو يجهلان، القطيعة الكاملة بين لبنان وعمقه الخليجي.

الواضح في هذا المجال، أنّ باسيل لم يبلع فرض وزيرين كسروانيين لزعيم “تيار المردة” في الحكومة الحالية، وهو الأمر الذي اعتبره صفعة لموقعه في عاصمة الموارنة أولا ولحظوظه الرئاسية ثانياً، ونقطة إيجابية في سجل خصمه الشمالي.

لكنّ الأمر الذي سرّع لحظة الردّ، جاء في الخطاب الذي ألقاه حسن نصرالله بعد حوادث الطيونة، وأشاد فيه بما وصفه “وفاء” سليمان فرنجية، موجّهاً بذلك أول إشارة شبه مباشرة تحدّد خياره الرئاسي بعد خروج عون من قصر بعبدا.

وليس من قبيل المصادفة أن يخرج إلى العلن ما قاله الوزير جورج قرداحي عبر برلمان العرب العامل في دولة الإمارات، وذلك بعد شهر من تعيينه وزيراً للإعلام، في خطوة قيل أنها كانت من صنع باسيل الساعي إلى تحقيق هدفين دفعة واحدة: تهشيم فرص القرداحي في الانتخابات النيابية المقبلة، وحرق فرص فرنجية الخارجية وتحديداً في منطقة الخليج، إضافة إلى علاقته مع الناخبين السنّة في لبنان سواء في الشارع على المستوى الانتخابي أو في البرلمان الجديد على المستوى الرئاسي.

ويبدو أنّ فرنجية وقع في شرك باسيل عندما ركّز على حربه الشخصية مع باسيل، متجاهلاً الحساسيات الخليجية والحسابات الرئاسية، متخذاً موقفاً فجّاً بدا فيه مناصراً لما قاله القرداحي وجزءاً جدياً من المحور الذي يهدّد أمن الخليج انطلاقاً من اليمن.

والواقع أنّ فرنجية تعامل مع ملف قرداحي كما تعامل من قبل مع ملف الوزير يوسف فنيانوس، واضعاً نفسه في مواجهة القضاء وقسم كبير من الرأي العام المسيحي.

والواقع أيضاً أنّ فرنجية أساء إلى علاقته مع الرئيس سعد الحريري و”تيار المستقبل” الذي دان تصريحات قرداحي وطالب باستقالته، في شكل بدا وكأنه يبلغ رئيس “تيار المردة” بطريقة غير مباشرة أنه لم يعد المرشّح الأبرز إلى المقعد الرئاسي الأول في البلاد أو الداعم له في الدوائر الانتخابية المختلطة.

ولعل هذه التطورات هي التي دفعت حليف فرنحية، النائب فريد الخازن، إلى طرح مبادرة من بكركي تهدف إلى جمع أركان الموارنة وإصلاح ذات البين بينهم، وهو طرح لم يلقَ أي ردود إيجابية حتى الآن. وتكشف مصادر مطلعة أنّ طرح الخازن جاء بطلب من “حزب الله” الذي يخشى أن يؤدّي خلاف باسيل – فرنجية إلى تعزيز فرص “القوات اللبنانية” والمجتمع المدني في الانتخابات المقبلة، وخسارة الغالبية التي يعوّل عليها للتحكّم بهوية الرئيس المقبل. وتشير المصادر عينها، إلى عدم وجود أي رغبة بين الديكين المارونيين لإجراء أي مصالحة لا تأتي بأحدهما رئيساً للجمهورية، ملمحة إلى أنّ باسيل والرئيس عون قد يعملان بكل الوسائل المتاحة لتأجيل انتخابات غير مضمونة النتائج والإبقاء على برلمان يملكان فيه القدرة على تمديد الولاية الحالية وانتخاب الرئيس الذي يريدانه.

ونعود هنا إلى الرابط بين صراع الديكين المارونيين وصراع الحصانين الفارسي والعربي في منطقة الخليج، لنشير إلى أنّ باسيل حاول أن يلغي فرنجية، فألغى لبنان عربياً، وأنّ فرنجية حاول أن يلغي باسيل، فألغى نفسه عربياً وسنّياً إلى حد كبير. وحده “حزب الله”، نال ما كان يعمل له منذ وقت طويل، إذ أنّ تصريحاً يتيماً من شخصية تلفزيونية غير مؤثرة فعل ما لم تفعله كل حملات حسن نصرالله على السعودية، وأخرج لبنان من الحظيرة العربية التي كانت تحميه من الهيمنة الإيرانية المطلقة، واضعاً إياه في فم الذئب الذاهب إلى فيينا وسط تهديدات جدية ومتلاحقة من إسرائيل وإنذارات من المجتمع الغربي وتحذيرات من الإدارة الأميركية.

وقد يقول قائل إنّ ما جرى كان أكبر من “لعب أولاد”، وهو على حق في ذلك. لكن الصحيح أيضاً أنه حتى “لعب الأولاد” يمكن أن يخرب بلاداً برمتها، عندما يفتحون ثغراً يتسلّل منها الآخرون، لتصفية حسابات لا يمكن تصفيتها في مكان آخر.

وأخيراً، لا بد من سؤال: ماذا دفع بعض الموارنة تحديداً إلى خوض معركة “حزب الله” مع العالم العربي، وتحديداً شربل وهبة وجورج قرداحي، وليس أي مذهب أو طائفة أخرى.

الجواب لا يحتاج إلى الكثير من التمحيص والتحليل :إذا عرفنا إلى أي خط سياسي ينتمي وهبة وقرداحي يبطل العجب، ليحل محله الخوف من إغلاق أبواب الخليج أمام جميع اللبنانيين باعتبارهم إمّا أعداء من “حزب الله” وإمّا “عملاء” من “التيار الوطني” و”المردة”، وإمّا “متقاعسين” من “تيار المستقبل” وإما “متلونين” من الحزب التقدمي الاشتراكي.

إنها المرة الأولى في تاريخ لبنان، نجد أنفسنا أمام شقيق عربي لا يثق فينا، وفي معيّة محور فارسي لا يثق به أحد.

إنها لعبة أولاد تحوّلت إلى لعبة كبار لن تنتهي إلا بغالب أو مغلوب، الغالب فيها مجهول والمغلوب حتى الآن لن يكون إلا لبنان.

شارك المقال