رصاصة الرحمة لأجنّة لبنان…

حسناء بو حرفوش

في الحرب تهيم الأرواح وتتحلل الجثث وتُنتهك الحرمات… لا عجب ويا لقسوة البشر! لكن في السلم لا يفترض أن تطلق رصاصة الرحمة على الاجنة… وبالأصل كيف تجتمع مفردتا “الرصاص” التي تعلن النهاية و”الأجنة” التي تبشر ببدايات جديدة. كيف ذلك؟ وأين الرحمة في حرمان طفل من الحياة؟!

هنا لبنان… في الظلام وبين الازقة الجائعة وسيرا على الاقدام، تتوجه نساء لبنان إلى العيادات النسائية وقد امضين الليالي يحكن حججهن ويتدربن على الخطاب لاقناع الطبيب بإنهاء الحمل. فقد تغير الزمن فجأة وسرقت من الناس سنوات إلى الأمام، وما عاد خبر الحمل مصدر بهجة بقدر ما بات عامل قلق وخوف… كيف قد يفكر أي كان بالإنجاب في بلد سيحمل فيه الطفل وأحفاده من بعده، وزر الديون قبل أن يبصر النور… سيبصر هذا النور برهة قبل أن ينقطع التيار الكهربائي ويضطر الأهل لاستخدام ما تبقى من بطارية الهاتف للتأكد من أن الطفل يتنفس ليلا أو أنه نائم بأمان.

وكم يحدث في هذه الآونة، أن يقرر الزوجان عدم الانجاب خوفا من متطلبات مراحل الحمل المادية ثم عملية الولادة فتربية ورعاية الرضّع وهمّ التعايش مع انقراض الأساسيات. لا جديد… قرار العقم الارادي يفوز بالإجماع ويكاد يمر من دون أي تفاعل… العقم الارادي “منطقي” في هذه الفترة.

اما المرعب فهو محاولة اقناع النفس والآخرين بأن القضاء على اي جنين وان إنهاء اي حمل حدث بقصد او بغير قصد، ما هو سوى رصاصة رحمة. اهي رحمة ام جريمة؟ معضلة تمزق الصدور وتزلزل الارحام.

سارة سيدة لبنانية متزوجة منذ سنتين شاء القدر أن تمنح لها هدية الامومة على أعتاب الازمات المتسارعة. وجدت نفسها مؤخرا مضطرة للتوقف عن شراء الحليب لابنتها، فإذا بها تكتشف أن في احشائها روحا جديدة لا بد من اطعامها بعد بضعة أشهر. تأتي سارة من بيئة لبنانية عادة شأنها شأن الملايين الذين فقدت أموالهم قيمتها وما عاد الراتب يكفيهم أسبوعا واحدا من الشهر الثقيل. فقدت عملها بعد أن ضاقت الدنيا بصاحب العمل وحمل نفسه ورحل من البلاد مخلفا وراءه عائلات بلا مصدر دخل بعد أن عجز حتى عن تأمين التعويضات لها. أما زوجها فموظف في القطاع العام. ولا يخفى على أي من القراء الميزانية التي تتحكم بكل مفاصل الحياة وبالأعصاب وبكل قدرة على التحمل.

وبعد أن كفرت سارة بالأمل، وضعت المبادئ في زاوية مظلمة من قلبها إلى جانب الخيبة من استنزاف شقاء عمرها ومن سرقة مال زوجها، وقررت قطع الطريق أمام الحياة. لم يسر الامر بسلاسة خصوصا أن الطبيب رفض إجراء أي عملية أو الدخول في متاهة وصف الدواء للتخلص من الجنين. لكن في النهاية، استسلمت سارة للجهد الشاق ولحبة دواء قضت مع رحيل الجنين على روح الأم وجعلتها أقرب لشبح مرض نفسي، ينتظر النهاية ببطء.

حكاية سارة تقشعر لها الأبدان، وعلى الرغم من أن كثرا واجهوها بالإدانات حد نعتها بـ”المجرمة”، إلا أنها تمسكت بقناعتها بأنها “أنقذت” جنينها من هذا العالم المخيف وأنه لو أتى ربما لاضطرت لرؤيته يحتضر جوعا أو بردا أو مرضا، وأن “التهمة” الوحيدة التي تقبل بتحمل وزرها هي أنها أخطأت ولم تتخذ كل الاحتياطات اللازمة لتجنب هذا الوضع.

مأساة تثقل النفوس لقصة تجد مع الأسف أصداء وأصداء لدى سيدات لبنانيات يعانين اليوم إما من الخوف من الحمل أو من التربص بالاجنة… فكم هو مرعب الوضع ومتى اختلفت المعايير واختفت الخطوط الحمر ومن الذي يلام على هذا الاستسلام الإنساني حد الانحدار كما يسأل البعض؟

ستحمل الأيام القادمة أسئلة كثيرة بعد… فالحرب اللبنانية الجديدة تدور اليوم بين جدران الارحام، تقطع كل الحبال السرية بين الحلم والحقيقة وكل أمل بحياة كريمة. من الآن فصاعدا، من يكترث للبنانيين المتعفنة أرواحهم بانتظار الطوابير؟ ستقتل الذرية اللبنانية في الرحم المحلي والاقليمي قبل أن يفكر أحد حتى بنجدتها.

شارك المقال