أعداء الحريري

جورج حايك
جورج حايك

يحق لرئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري أن يخرج من السباق الانتخابي والانصراف إلى إعادة استجماع تياره وتنقية مسيرته السياسية وخصوصاً بعدما اصيبت بأضرار عديدة بفعل العمل السياسي والضغوط والتسويات، واحياناً الاستهدافات المتعددة من خصوم ليسوا خصوماً إنما اعداء. فالرجل بدأ مسيرته عام 2005 إثر اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري، وكان رجل اعمال ناجحاً، متولياً بعض مؤسسات والده، إضافة إلى بعض الشركات الخاصة، فدفعته الظروف القاهرة إلى السياسة وأولته العائلة ثقتها. وبعد فوزه بالأكثرية النيابية مع حلفائه أصبح زعيماً للأكثرية النيابية، ومن هنا بدأت القصة.

لا شك أن الحريري كان طريّ العود في السياسة، ثم اكتسب خبرة مع مرور الزمن، مستفيداً من التعاطف الشعبي الكبير والعابر للطوائف بعد استشهاد الحريري الأب. الحمل كان ثقيلاً، وأعداء لبنان لم يهدأوا منذ لحظة تسلّمه الحكم، فكان يتلقى الضربة تلو الضربة. تعلّم كثيراً وتوجّع أكثر، هو الشخص الطيّب والحسّاس، القريب من جمهوره الأزرق، وتدريجياً على الرغم من كل الضربات، بات الحريري زعيم السنّة في لبنان، متجاوزاً مسألة الوراثة. واللافت أن علاقة الحريري بحلفائه لم تكن تشوبها شائبة حتى عام 2016.

فكيف وصل الحريري إلى هذه الحالة، أي اعلانه تعليق عمله السياسي؟

من الواضح ان الحريري لم ينسحب من الحياة السياسة كلياً، بل لم يعتزل السياسة كما يشيع البعض، إنما علّق مشاركته في الانتخابات النيابية، والتاريخ وحده سيحكم على صوابية هذا القرار أو عدمه.

يبدو من كلمة الحريري الأخيرة أنه يعلم اسباب الحالة التي يعيشها وهي ليست سراً على أحد، والسبب الرئيسي والجوهري كشفه بنفسه أي “تزايد النفوذ الإيراني” في لبنان. وأقر أمام ملايين المشاهدين بأنه انخرط في تسويات لمنع الحرب الأهلية، وقد عدّد التسويات من احتواء تداعيات 7 أيار إلى اتفاق الدوحة إلى زيارة دمشق إلى انتخاب ميشال عون إلى قانون الانتخابات، وغيرها.

منذ عام 2006 اتضح ان “حزب الله” كان مصمماً على متابعة مسيرة الاحتلال السوري الذي خرج مهزوماً من لبنان بفعل ثورة الأرز عام 2005، ولو فكّر الرئيس الشهيد رفيق الحريري للحظة بالخوف من عودة الحرب لو ركب موجة المعارضة مع لقاء قرنة شهوان ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط كما فكّر اليوم ابنه سعد، لربما كان الجيش السوري ومخابراته لا يزالان في لبنان! الشعور بالخوف من الحرب الأهلية لا يمكن منعه، إلا أن لبنان بات محتلاً من ايران منذ 2006، فالقاصي والداني يعرف أن “حزب الله” قراره ليس لبنانياً، بل أمينه العام حسن نصرالله يعترف بأن ماله وسلاحه إيرانيان، ويشارك في حروب في الدول العربية نصرة للمشروع الايراني، وبالتالي هذا احتلال مموّه بعناصر لبنانية لكنّ ولاءها لإيران بالكامل.

في هذه الحالة تصبح المقاومة ضد الاحتلال واجباً، وليس بالضرورة ان تكون مواجهة عسكرية إنما مواجهة سياسية صارمة وحازمة، ولو أدت إلى بعض الخسائر والتضحيات، فالأوطان تستوجب التضحية، وهكذا تحررت الهند من بريطانيا وفرنسا من المانيا وليبيا من ايطاليا، وهناك عشرات الأمثلة والنماذج عبر التاريخ!

قد نفهم بأن وضع الحريري الشخصي أصبح صعباً نتيجة خسارته لثروته المالية ومشاريعه، وقد نفهم أنه ربما غير قادر على تمويل حملته الانتخابية، وقد نفهم انه يعاني من انقطاع العلاقة مع مرجعيته التاريخية أي السعودية، لكن كل هذه العوامل كان سببها واحداً: حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر، اللذان لم يوفرا جهداً منذ عام 2006 وحتى اليوم في تكبيل الحريري ومحاصرته. فقد اختبر التسويات معهم لكنها لم تفلح. ففي كل مرة كانوا يطعنونه في ظهره، وخصوصاً عندما ارتكبوا خطيئة 7 ايار واجتاحوا بيروت، ثم انقلبوا على اتفاق الدوحة، وقطع له جبران باسيل “وان واي تيكيت” وهو مجتمع مع الرئيس الأميركي باراك اوباما. ثم تمادوا في التعطيل، غير آبهين بشؤون الناس، فعطلوا الانتخابات النيابية والحكومات وأخيراً انتخابات رئاسة الجمهورية. علماً ان الصفعات التي كان يتلقاها الحريري لم تكن له وحده انما لحلفائه أيضاً أي “الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية” وبعض المستقلين.

التسويات التي قَبِل بها الحريري لم تعجب حلفاؤه ولا سيما “القوات اللبنانية” وحليفته الاقليمية الاستراتيجية المملكة العربية السعودية، وحصل مصارحة مع حلفائه المحليين والاقليميين، لكن الحريري كان يسير في منحدر، مستمراً في التسويات عبر شراكته مع باسيل حتى اندلعت ثورة 17 أيار 2017.

كل هذه الوقائع تؤكد أن اعداء الحريري لم يكونا وليد جنبلاط وسمير جعجع بل “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” اللذين وفّرا أرضية خصبة للنفوذ الايراني، والتسويات ساهمت في ذلك. في حين لو اتخذ الحريري بمساعدة حلفائه مواقف حازمة في بعض الاستحقاقات، من دون أن يؤدي ذلك إلى حرب، بدليل ان أموراً عديدة نعيشها تشير إلى ان “حزب الله” يتراجع إذا تمت مواجهته بمواقف صلبة، وأهمها قضية القاضي طارق البيطار، واستقالة جورج قرداحي ومنع مؤتمر المعارضة البحرينية في لبنان وغيرها.

تبدو حملة تيار “المستقبل” بعد تعليق الحريري مشاركته في الحياة السياسية موجّهة إلى “القوات اللبنانية” أكثر من التركيز على الأعداء الحقيقيين الذين اهرقوا دماء الحريري الأب، ويهدّدون حياة كل لبناني سيادي، وربما وقع بعض اعلاميي “المستقبل” في هذا الفخ، علماً انه بعد كلمة الحريري انشأ “حزب الله” 2000 حساب الكتروني وهمي بأسماء وصور توحي بأنهم ينتمون إلى الطائفة السنّية، اختلطت مع بعض حسابات الغاضبين من تيار “المستقبل”، تولوا مهاجمة “القوات” وجعجع، لتسعير الخلاف واعطاء الانطباع بأن جعجع غير مقبول عند السنّة. فيما صدر موقف مشرّف من الرئيس فؤاد السنيورة يصوّب البوصلة قائلاً “إن الانتخابات النيابية يمكن أن تشكّل مناسبة من أجل توحيد صفوف القوى السيادية حول قضية استعادة سلطة الدولة اللبنانية الحصرية وقرارها الحر”.

استغل محور الممانعة بكل مكوّناته، وعن سابق تصوّر وتصميم، تحميل مسؤوليّة عزوف الحريري عن المشاركة في الانتخابات إلى “القوات اللبنانية”، وهذا مجاف للواقع والحقيقة، وتضليل ما بعده تضليل ومكشوف الأهداف والغاية منه تحريض البيئة السنّية على التوجُّه السياديّ، ومحاولة فاشلة لاستمالتها نحو خيارات تتناقض مع دور رأس الحربة الذي قادته بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري برفعها عنواني “لبنان أولاً” و”الدولة أولاً”.

فالإشكالية الحقيقية أمس، اليوم، وغداً هي في تغييب الدولة من قبل محور الممانعة في توزيع للأدوار بين مكوناته كلّها. ويظنّ هذا المحور الذي أوصل لبنان إلى الانهيار، والشعب إلى الفقر، والوطن إلى العزلة، والدولة إلى الفشل، أنّ باستطاعته حرف الأنظار عن سياساته وممارساته التي وضعت لبنان في جهنّم، لكنّ الشمس شارقة والناس قاشعة ولم تعد تنطلي عليها فبركات الغرف السوداء التي كانت وراء الاغتيالات وخطف الدولة وضرب الاستقرار…

أما حقيقة التباين بين “القوات” و”المستقبل” فليس خلافاً استراتيجياً جوهرياً، فهما لا يزالان متوافقين على رؤية الدولة اللبنانية التي يريدانها، أي دولة القانون والمؤسسات واحترام الدستور والحياد وتطبيق القرارات الدولية والعربية، وحصر السلاح في يد الجيش اللبناني، وانفتاح لبنان على الشرق والغرب، وعودة الاستقرار وبناء اقتصاد سليم وما إلى ذلك…

لكن لا بد من الاعتراف بوجود تباين ربما تكتيكيّ، أو يتعلق بالطريق التي يجب أن تُسلك للوصول إلى الهدف المنشود. فـ”المستقبل” لا يريد أي مواجهة سياسية أو غير سياسية مع “حزب الله” الذي لا يحترم اللعبة السياسية أصلاً، وينقلب على كل التفاهمات والتسويات مستخدماً القوة والسلاح مما يهدد السلم الأهلي، وبالتالي بلغ الحريري حالة اليأس منه. فيما تعتبر “القوات” انه لا يجوز الاستسلام أمام حالة “حزب الله” ويجب أن يسلك اللبنانيون طريق المواجهة مهما كان الثمن، لأن الأوطان لا تتحرّر إلا بالنضال والمقاومة، وليس بالضرورة أن تؤدي إلى حرب أهلية التي لا يتحمل مسؤوليتها، إن وقعت، إلا “حزب الله”، علماً ان الحالة التي يعيشها المواطنون اللبنانيون باتت اسوأ من الحرب. إضافة إلى تباينات أخرى تتعلق بكيفية ادارة الدولة ومكافحة الفساد.

لم تكن “القوات” يوماً عدوة لتيار “المستقبل” ولا للرئيس الحريري، وأكدت معراب مراراً وتكراراً انها لا تريد أن ترث أحداً، فلكل فريق خصوصيته ومكانته، لكن هذا لا يمنع من توحيد الجهود في ادارة المعركة الانتخابية لتوجيه الجمهور السيادي مهما كانت طائفته من أجل رفع يد الاحتلال الايراني، فحالة الدولة المهترئة والشعب البائس والمذلول بسبب ممارسات “حزب الله” لا تحتمل “تنقير” السياديين على بعضهم البعض، وليست الظروف طبيعية للتنافس بين الطوائف، أو اعلان شأن طائفة معينة، إنما وجود لبنان كلّه بات مهدداً بالصميم، وإذا تمكّن منه الأعداء سيغيّرون طبيعته ولن تعود لأي طائفة أو زعامة وجود، والعبرة لمن اعتبر!

شارك المقال