زيارة البابا للبنان تخرجه من محور الممانعة إلى المجتمع الدولي!

جورج حايك
جورج حايك

لا يُخفى على أحد أن ديبلوماسية الفاتيكان ودورها الخارجي لا يهدفان إلا إلى تحقيق السلام العالمي، باعتبار أن هذا الدور أصبح ضرورياً وسط تصاعد الصراعات في قطاعات معتبرة من العالم، وهذا ما تؤكده وقائع عدة. ولا يقوم رأس الكنيسة الكاثوليكية بأي زيارة لدولة معينة من دون أن يكون لديه هدف معين أو رسائل يرغب في إبلاغها إلى المعنيين أو حتى مواكبة لتغيير في المشهدية السياسية في الدولة المضيفة.

من هذا المنطلق يجب النظر إلى زيارة البابا فرنسيس إلى لبنان في حزيران المقبل، وقد سبق ذلك اهتمام لافت لديبلوماسية الفاتيكان بالوضع اللبناني وحساسية الوجود المسيحي في وطن الأرز، والاشارات المقلقة التي تلقاها البابا حول هذا الوجود. وليس مستغرباً دخول الفاتيكان على خط الأزمة في لبنان، فعاصمة الكثلكة غالباً ما كانت لها أياد بيض في تحديد مصير الدول أو الحد من النزاعات بينها، كحل النزاع الذي قام بين ألمانيا وإسبانيا حول جزر كارولين، وقد لعبت دور الوسيط بين الأرجنتين وتشيلي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لتسوية نزاعهما حول حقوق السيادة في قناة بيغل، ونجحت جهود الوساطة في إقناع تشيلي والأرجنتين بالتوقيع على اتفاقية عام 1984 داخل الفاتيكان لينتهي النزاع بين الدولتين. وتكون زيارات الباباوات عادة لتحقيق أهداف معينة، وهذا ما حصل عندما ساهم البابا يوحنا بولس الثاني في انهاء الشيوعية في بولونيا عام 1989، وكان له تأثيره في زوال الشيوعية في الاتحاد السوفياتي. وفي خطوة جريئة اعترف الفاتيكان عام 2015 بدولة فلسطين رسمياً، وزار البابا فرنسيس دولة الامارات العربية المتحدة عام 2019 ووقّع مع شيخ الأزهر الامام أحمد الطيب “وثيقة الأخوة الإنسانية”، التي تهدف إلى تعزيز العلاقات الإنسانية.

مهما كانت نتائج زيارة البابا فرنسيس إلى لبنان، فهي تحظى باهتمام لافت، لكنها ليست الزيارة الأولى لرأس الكنيسة الكاثوليكية الى هذا البلد، إذ اغتنم البابا بولس السادس فرصة مروره ببيروت في طريقه إلى بومباي في الهند في كانون الأول 1964 ليعلن أهمية لبنان كنموذج للتعايش السلمي. وفي عام 1995 أقام البابا يوحنا بولس الثاني “سينودس” في روما ضم مطارنة وكهنة كاثوليك، وهو اجتماع عُقِدَ من أجل لبنان، وشارك فيه مسلمون ومسيحيون لبنانيون، ليتوّجها عام 1997 بزيارة إلى لبنان وقّع فيها على مقرّرات هذا الـ”سينودس”، وأعلن لبنان “بلد الرسالة”، وحسمت زيارته بعض الخلافات حول هوية لبنان. وشجعت أعلى سلطة كنسية في العالم المسيحيين في لبنان على الالتزام بالعالم العربي، ونالت تأكيداً من المسلمين على نهائية لبنان في أذهانهم، كما لعبت هذه الزيارة دوراً في تنشيط المعارضة ضد الاحتلال السوري الذي انتهى بانسحابه من لبنان عام 2005.

قبل أن يقدّم البابا بنديكتوس السادس عشر، استقالته من مقامه، قام بآخر زيارة له والتي كانت وجهتها لبنان عام 2012، حيث كانت الشعوب العربية تعيش حالة من عدم الاستقرار مع بدء الثورات العربية.

أما اليوم، فينقسم اللبنانيون حول مفاعيل زيارة البابا فرنسيس إلى لبنان المقررة في حزيران المقبل، ويعتبر البعض أنها ستحدث خرقاً في جدار الأزمة اللبنانية، فيما يقلل البعض الآخر من شأنها ويضعها في خانة تشجيع اللبنانيين على الوفاق والتفاهم. لكن لا بد من العودة إلى المعلومات التي حصلنا عليها من مرجع في دوائر الفاتيكان، أكد أن ما يريح الفاتيكان ويشكّل للبابا فرنسيس عامل اطمئنان لزيارة لبنان هو احترام مواعيد الاستحقاقات الدستورية وأهمها الانتخابات النيابية التي ستجري في 15 أيار المقبل وليس ارضاء لأي مسؤول سياسي أو خيارات أحزاب من هنا وهناك، لأن البابا لا يتدخل في تفاصيل من هذا النوع ولا تهمّه الاصطفافات السياسية في لبنان، انما يحرص على صيغة العيش المشترك في لبنان وصون التعددية والحريات وبناء دولة بعيدة عن سياسة المحاور، وبالتالي ما حاول رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي الايحاء به للشعب اللبناني بأنه “صانع” انجاز الزيارة البابوية للبنان لا يمت إلى الحقيقة بصلة، والفاتيكان يعرف الشاردة والواردة في لبنان ومطلع على إخفاقات العهد وتطلعات اللبنانيين لانتخاب رئيس جمهورية جديد يرضي كل المكونات اللبنانية ويعيد لبنان إلى خارطة المجتمع الدولي وإبعاده عن سياسة المحاور القاتلة.

الاستثمار السياسي الرخيص في قصر بعبدا لزيارة البابا فرنسيس إلى لبنان أزعج الأخير كثيراً، وحتى استباق الاعلان عن موعد الزيارة قبل صدورها الرسمي من الدوائر المختصة في الفاتيكان أثار بلبلة غير مستحبة، لكن البطريركية المارونية وبالتنسيق مع الفاتيكان قطعت الطريق أمام كل استثمار سياسي من خلال الاعلان رسمياً عن الزيارة وتأكيدها ووضعها في الإطار الحقيقي بعيداً عن التوظيف السياسي الضيّق.

ويحدد المرجع في دوائر الفاتيكان الرسائل التي سيؤكد عليها البابا فرنسيس خلال زيارته إلى لبنان وهي:

– الرسالة الأولى هي لطمأنة المسيحيين الخائفين على حضورهم في لبنان في ظل التشتت السياسي والتراجع الديموغرافي نتيجة الهجرة، وسيوجههم إلى الابتعاد عن سياسة المحاور مما ينعكس سلباً على الوضع المسيحي. وسيشدد على أن المسيحيين يحافظون على قوتهم في دولة قادرة، وتلاشي الدولة ومؤسساتها لصالح أي حزب أو جهة سياسية ينعكس سلباً على الحضور المسيحي مما يزيد الهجرة كما حصل في السنتين الأخيرتين ولاسيما بعد الانفجار المدمّر في مرفأ بيروت. ولن يتأخر بابا روما في التنبيه من خطورة إضعاف المكوّن المسيحي في لبنان مما يهدّد بالقضاء على التوازن الداخلي.

– الرسالة الثانية للبابا فرنسيس سيكون مضمونها المحافظة على اتفاق الطائف الضامن للمناصفة بين المسلمين والمسيحيين وتجنب العودة إلى لغة الحرب، وسيؤكد على ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويتها الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعددي متسامح ومتنوّع، يقدّم فيه الحضور المسيحي إسهاماته ولا يقتصر على كونه أقلية فحسب، والتحذير من الانغماس في التجاذبات والتوترات الإقليمية.

– الرسالة الثالثة سيحرص فيها على تأكيد مرجعية البطريركية المارونية الوطنية، وتبنّي الفاتيكان رؤيتها للحل في لبنان، ولا سيما ما ينادي به البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بضرورة تحرير الشرعية والقرار الوطني ورفض أي تسوية على حسابه، أو أن يكون جائزة ترضية لأحد، مؤكداً التمسك باتفاق الطائف والمناصفة ورفض المثالثة. ولن تكون الدعوة إلى مؤتمر دولي وحياد لبنان غائبين عن رسالة البابا انطلاقاً من رغبة بكركي في تحقيق الاستقرار السياسي وعودة الازدهار الاقتصادي الذي لطالما تميّز به لبنان قبل عقود إلى حد توصيفه بـ”سويسرا الشرق”. وسيرفض البابا فرنسيس أي تشويه للنظام اللبناني وميثاقه الوطني وأي اختلال في علاقات لبنان العربية والدولية ورفض إلصاق أي هويات تتناقض مع الهوية اللبنانية.

في المحصّلة، لن يأتي البابا فرنسيس والوفد الفاتيكاني الرسمي إلى لبنان حاملاً همَّ المسيحيين وحدهم، بل همَّ جميع اللبنانيين. وهو سيحمل أيضاً قضيةَ لبنان بما هي قضية الحرية والسيادة والحوار والعيش المشترك المسيحي – الإسلامي، بالمساواة والتضامن والتعاون في هذا الشرق. فهو يعرف جيداً أنَّ صحّة الشرق من صحّة لبنان.

شارك المقال