ضحية أخرى لبوتين!

علي نون
علي نون

تراجع إحتمالات العودة الى الإتفاق النووي بين طهران وواشنطن يعني أن الأخيرة وصلت الى قناعة راهنة مفادها أن الستاتيكو القائم صار أفضل من بديله المطروح.

ادارة جو بايدن تعتبر (الآن) أن الإتفاق مع الايرانيين في ظل الحرب الأوكرانية وعشية الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، هو وصفة أكيدة للفشل. وهذا كان سيضاف الى أسباب كثيرة أخرى جعلت هذه الادارة غير مقنعة لناخب يريد أعباء حياتية أقل وليس أكثر… حرب أوكرانيا وتداعياتها النفطية دخلت الى كل بيت في الغرب والشرق وهذه جاءت في أسوأ توقيت ممكن بعد ثلاث سنوات عجاف من كارثة كورونا. وما كان يقال ولا يزال يقال، هو أن الاقتصادات العالمية تحتاج الى سنوات لالتقاط أنفاسها وتعويض خسائر تلك الجانحة الأصعب من نوعها منذ بدايات القرن الماضي… فكيف الحال وقد جاءت الحرب الى عقر الدار، وبطريقة ما كانت متوقعة في عالم ما بعد الحرب الباردة؟ وهي بدورها تحمل تداعيات اقتصادية ومالية كبرى وتضع موازنات الأوروبيين والأميركيين تحت ضغط تمويل مواجهة أساسية وخطيرة وكل ما فيها يشير الى أن احتمال تحولها الى حرب عالمية ثالثة، لم يعد مستغرباً ولا مستبعداً.

لكن من غرائب هذه الحرب الروسية على أوكرانيا (وغرائبها كثيرة) هي أنها “أنقذت” ادارتين أوروبيتين كانتا تترنحان على حافة السقوط، هما حكومة بوريس جونسون وحكم ايمانويل ماكرون… والأهم من ذلك أن إدارة بايدن في واشنطن صارت أكثر حضوراً ومقبولية تبعاً لأدائها في مواجهة فلاديمير بوتين! والدول الثلاث، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تشكل رأس حربة في التصدي لما يفعله ساكن الكرملين في موسكو وحائط صدّ لما يمكن أن يفعله أكثر!.

من حيث لم يحتسب، حقق بوتين في أسبوع واحد “معجزات” حقيقيات: أعاد إحياء موتى سياسيين، وأعاد ربط ضفتي الأطلسي بعد أن كان دونالد ترامب قد وضع كل جهده لتوليد مناخ افتراقي بينهما على الضد من تاريخ العلاقات المحكومة بعمق قيمي وسلالي وديني رسختها أكثر فأكثر الحربان العالميتان الاولى والثانية، ثم ما تلا ذلك من مأسسة تلك الروابط المتينة عبر إنشاء حلف الناتو الدفاعي …

في منطق الإستراتيجيات الكبرى يمكن الجزم بأن حرب بوتين في أوكرانيا هي أسرع حرب فاشلة في التاريخ الحديث! احتاج الأمر الى أسبوع واحد ليس أكثر كي يتبين أن خسارته ميدانية تكتية حتى لو أخذ شريطاً حدودياً في الشرق والجنوب الأوكرانيين، لكن الأنحس من ذلك هو أن خسارته الأكبر تكمن تحديداً في اعادة عزل روسيا مقابل اعادة توحيد الغرب في وجهه ووجه غيره!.

…وغيره هذه تتصل بإيران: قبل الحرب كانت واشنطن “تخسر” المفاوضات في فيينا! سلّمت سلاحها وأعلنت تعبها وقبلت ما تريده إيران أساساً، أي العودة الى الاتفاق من دون توابع وإضافات! وفي حين دعمت الترويكا الأوروبية، فرنسا وبريطانيا وألمانيا الموقف الأميركي المتساهل، كانت واشنطن أمام تحد غير مسبوق في علاقاتها مع حلفائها في الشرق الأوسط! وشهد العالم ولا يزال يشهد تداعيات ما جرى وكاد أن يجري في فيينا!.

واشنطن أرادت الاتفاق لمنع اضطرارها الى خيارات غير ديبلوماسية كانت بدأت تلوح بكثافة في أجواء إسرائيل والمنطقة… وكانت مستعدة لتحمل تداعياته داخلياً طالما أنها تستطيع المحاججة بأن الأولوية يجب أن تكون لمعالجة تداعيات كورونا الكارثية مالياً واقتصادياً في الداخل، والتفرغ للهم الصيني في الخارج… ثم إن أكلاف الاتفاق في فيينا تبقى بالنسبة اليها أقل بكثير من كلفة الخيارات الأخرى. ولا يمكن نكران وجاهة هذا المنطق خصوصاً اذا كان مستنداً الى عجز في الخزينة الأميركية بأرقام فلكية!.

تغيرت الحسابات بعد أوكرانيا. وتغيرت معها الهموم والأولويات حتى وإن بقي التضخم في أسعار المحروقات والغذاء في أولويات المستهلك – الناخب الأميركي والأوروبي. عادت التحديات المصيرية التي كانت في ذروة الوعي الغربي خلال الحرب الباردة، الى الواجهة. وصار كل شأن آخر ثانوياً أمام مركزيتها… تلاشت الملاحظات على أداء جونسون خلال كارثة الوباء وتراجعت الاستهدافات لبرنامج عمل ماكرون ونهجه المؤذي للطبقات المتواضعة… وارتاح بايدن من ملاحقات ترامب والجمهوريين ومن تبعات أدائه الضعيف وصار شعار المرحلة قريباً من أنشودة “النضال” العربي: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!.

…وفي مناخات الحروب الكبرى لا تركب التسويات الهامشية وخصوصاً مع طرف عشعشت عدائيته في عقول الأميركيين والغربيين على مدى أربعة عقود وترسّخت! ولولا عودة “العدو” الروسي الى المسرح من نافذة أوكرانيا، لظلت ايران في موقع الريادة وبطلة كل المواسم كعدو تام ومكتمل المواصفات!… ثم إن الغلو عند صاحب الشأن الايراني أطلع مفاوضيه على الشجرة وسحب السلّم من تحتها: لا يستطيع أي رئيس أميركي مهما تواضع وتراخى وتنازل أن يرضى برفع “الحرس الثوري” من لائحة الارهاب طالما أنه العنوان الأول لكل أسباب الدم الأميركي المسفوك في العالم بعد فيتنام. من بيروت الثمانينيات الى العراق وغيره في التسعينيات والربع الأول من الألفية الثالثة. وبعد هذا وقبله وفوقه وتحته: لا يستطيع تبرير قضية كبيرة من وزن الاتفاق مع ايران والاختلاف الخطير مع إسرائيل! أو مواصلة الحركشة الكيدية بالحلفاء والأصدقاء التاريخيين في المنطقة.

وللمرة الأولى منذ بدء ليالي الأنس التفاوضي في فيينا، تقف الترويكا الأوروبية خلف بايدن في موقفه الممانع ازاء المطالب الايرانية الفضفاضة والبطرانة… وصارت مثله ترى أن الأولوية هي لابقاء مناخ التعبئة على وتيرته وشحذ الهمم وقرع الطبول لرد العدوان في أوكرانيا قبل أن يصل اليها بطريقة أو بأخرى! وهي في جملتها، تعبّر عن حسّ شعبي عام فعلي وواقعي وطاغ في كل أوروبا وعموم الولايات المتحدة مفاده أن خطر بوتين مصيري وجدّي وليس مفتعلاً ولا افتراضياً.

…ثم ان ايران على الجانب الآخر، تستطيع من الآن الى ما بعد الانتخابات النصفية الأميركية وتبيان مسار الحرب الراهنة، أن تأخذ كل وقتها في النكش والبحش في سؤال كبير: هل من علاقة بين توقيت قرار بوتين بغزو أوكرانيا ووصول مفاوضات فيينا الى لحظة حاسمة؟

شارك المقال