انتفاضة البطريركية المارونية مستمرة… وهذا ما سيحصل!

جورج حايك
جورج حايك

منذ 27 شباط 2021 رفع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مستوى التحدي لمشروع “حزب الله” والذين يدورون في فلكه، وطلب من الحضور الكثيف الذي تجمّع تحت شرفة دير سيدة بكركي عدم السكوت.

كثر ظنوا أن كلام البطريرك سيكون عابراً في الكلام عن السلاح غير الشرعي والحياد والمؤتمر الدولي، إلا أن الراعي لم يتوقف عن الكلام، بل صعّد انتفاضته من خلال انتقاد السلطة المؤلفة من “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، كل أحد يلقي عظة ويوجّه انتقاداته اللاذعة مما يسبب ازعاجاً كبيراً للسلطة المنحرفة في تطبيقها للدستور ووضع قرار الدولة في يد ايران وإقحام لبنان في لعبة المحاور مما أدى إلى عزلته وانقطاع العلاقة مع المجتمعين الدولي والعربي والتدحرج إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي والمعيشي والفقر والعوز.

وآخر ما ضايق “الحزب” و”التيار” كانت دعوات الراعي إلى انتخاب رئيس “فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب”، يكون قادراً على “الشروع في وضع البلاد على طريق الإنقاذ الحقيقي والتغيير الإيجابي”. فهم العهد هذه الدعوات بأنها موجّهة ضده وللإمتناع عن انتخاب رئيس جديد ينتمي إلى تياره أي جبران باسيل.

انطلاقاً من هذه المعطيات وهذا المسار، جاء توقيف المطران موسى الحاج لأكثر من عشر ساعات، فالأمر ليس وليد ساعته بطبيعة الحال، لأن تفقده لأبرشيته في الأراضي المقدسة يحصل بصورة دورية وثابتة ومستمرة، بل أنه ليس سراً أن الرهبانيات المارونية والكاثوليكية واللاتينية لها أديار وبيوت للرسالة وكنائس في الأراضي المقدّسة، والرهبان يذهبون ويعودون من هناك منذ أعوام طويلة ولا سيما عن طريق الأردن، وبالتالي لماذا استفاقت السلطة السياسية المؤلفة من “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” الآن؟

إذاً المسألة تتجاوز مسألة زيارة الأراضي المقدسة وخصوصاً أن المطران الحاج يرأس الكنيسة هناك ويديرها منذ وقت طويل، وتوقيت عملية التوقيف مريب لأنه يأتي عقب الكلام التصعيدي للبطريرك الراعي حول مواصفات رئيس الجمهورية، وهنا بيت القصيد! علماً أن المراجع الأمنية قد أعلنت أساساً أنّ توقيف الحاج جاء تنفيذاً لقرار قضائي من القاضي فادي عقيقي، الأمر الذي يستدعي بعض الملاحظات:

أولاً، يبدو أن القاضي عقيقي إتخذ قرار توقيف المطران الحاج من دون التشاور مع مَن يجب أن يتشاور معه من مراجع قضائية وأمنية وسياسية قبل الشروع في خطوة غير مسبوقة وبهذا الحجم وخطيرة من هذا النوع.

ثانياً، لا يمكن أن يتجرأ القاضي عقيقي على إصدار قرار قضائي بتوقيف المطران من دون أن يكون قد أمّن الغطاء السياسي لهذا القرار.

ثالثاً، ظهر دور القاضي عقيقي صورياً وبدا كأنه ينفِّذ قرار جهة سياسية أرادت في هذا التوقيت بالذات توجيه رسالة وقحة إلى الكنيسة المارونية.

رابعاً، لا يمكن أن يُقدم “حزب الله” على خطوة خطيرة من هذا النوع من دون العودة إلى حليفه وشريكه المسيحي، لأن تداعياتها ستنعكس مباشرة على هذا الحليف الذي أظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة تراجعه الكبير بسبب تخليه عن مسؤولياته وترك القرار للحزب وانهيار البلد في عهده.

خامساً، ما حصل مع المطران الحاج هو قرار سياسي يتحمله بالتكافل والتضامن “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، وهما لا يأبهان أن يتحوّل عقيقي كبش محرقة أو ورقة محروقة وهذا مصير من يقبل أن يتحوّل إلى أداة ضدّ كنيسته وبيئته، وبالتالي بيئته وكنيسته ستتبرّآن منه.

سادساً، لم يفكّر “الحزب” و”العهد” بعواقب هذا القرار، واضطرارهما إلى التراجع عنه، وعدم قدرتهما على استكماله، والضجة التي سيحدثها ويثيرها، بحيث ظهرا بمظهر الدولة البوليسية الضعيفة والحزب الحاكم المتهالك.

سابعاً، تصرّف “الحزب” بخفة وكأنه ما زال في عمر المراهقة وعلى نحو لا ينسجم مع ما يدّعيه من دور إقليمي ومرور 40 سنة على تأسيسه، بل لم يتعلّم شيئاً من حليفه النظام السوري في كيفية تركيب الملفات وتهيئتها والإقدام عليها.

ثامناً، راهن “الحزب” و”العهد” على سكوت بكركي ورضوخها وتسليمها بالأمر الواقع، مما يؤكد أن الحليفين يجهلان تاريخ البطريركية المارونية، بأنها ستتمسّك بمواقفها وستنقل المواجهة إلى أرض الواقع، وبالتالي رسالة المطران الحاج لن تكون الأخيرة.

تاسعاً، فهمت البطريركية المارونية توقيت الرسالة عبر توقيف الحاج وهو يتعلق بمواقفها السيادية ودعوتها للحياد والمؤتمر الدولي في لحظة تحولات إقليمية بعد مؤتمر جدة. كما أنها رسالة عونية على خلفيات رئاسية وانزعاجها الشديد من مواصفات بطريركية تحمِّل العهد العوني مسؤولية الانهيار فيما يريد عون وباسيل أن ينتزعا موقفاً رئاسيّاً من الكنيسة قبل فوات الأوان أو إسكاتها. إضافة إلى أنها رسالة تطاول على الكنيسة المارونية تشكل جزءاً لا يتجزّأ من رسائل أخرى في اتجاهات مختلفة الهدف منها توتير الوضع السياسي ودفعه عمداً إلى الفوضى من أجل وضع الجميع أمام خيارات رئاسية أو الفوضى.

عاشراً، عندما يتجرأ النظام الأمني – القضائي، غير الممسوك بصورة كاملة على غرار حقبة الاحتلال السوري، على توقيف المطران موسى الحاج والتحقيق معه لأكثر من 12 ساعة، فأحد أهداف هذا النظام أيضاً توجيه رسالة ترهيبية إلى الكنيسة مفادها أنّ التحقيق يمكن أن يتحوّل إلى توقيف، ومَن يحقِّق مع مطران لمرة قادر على التحقيق لمرات وأبعد من التحقيق، وهو يدعو بذلك الكنيسة المارونية إلى إعادة النظر في سياساتها السيادية.

كيف واجهت الكنيسة المارونية هذا الاعتداء السافر؟

قد يعتبر بعض الرؤوس الحامية أن ما فعلته الكنيسة اثر توقيف المطران الحاج لا يكفي وليس على مستوى حدث الاعتداء والرسالة الموجّهة، لكن البطريرك الماروني هو امتداد للبطاركة المقاومين والمناضلين، قد يكون ظاهر مقاومته ناعماً، إلا أن ما يفعله منذ 27 شباط 2021، أزعج كثيراً مشروع “حزب الله” وحلفائه، وإلا ما كانوا أعدوا كميناً للنيل من المطران الحاج، وأول ما فعلته البطريركية هي إخراج المطران بسرعة من التوقيف، وحصل التفاف شعبي كبير حولها. ثانياً، اجتمع البطريرك والمطارنة استثنائياً وأصدروا بياناً عالي النبرة محددين سقف المواجهة، بحيث لن يرضوا بأقل من اقالة القاضي فادي عقيقي أو كفّ يده، وشكّل البيان وثيقة إضافية من وثائق الكنيسة المارونية بأدبياته ووضوح نصه وقوة تعابيره وعمقه وفلسفته وعنفوانه وتذكيره بتاريخ البطريركية وصمودها في وجه ممالك وسلطنات ودول، كما تذكيره بدورها في تأسيس الجمهورية اللبنانية واستمرارها في الدفاع عن قيمها بالحرية والعدالة، وما التذكير بأزمنة الاحتلال وصمود البطريركية سوى لتوجيه رسالة واضحة ومباشرة أنّه مهما طال الزمن أو قصر فإنّ الاحتلال الإيراني وأدواته زائلين والبطريركية صامدة ومستمرة. وما كشفه البطريرك أمام زواره أنه لن يسكت عن المطالب التي تزعج هؤلاء، بل سيصعّد إلى مزيد من المواجهة ولن يرضى إلا برئيس للجمهورية لا علاقة له بمحور الممانعة وايران ولا بالمدرسة العونية التي لم تجلب إلى لبنان سوى الويلات!

ليس سراً القول ان اكثرية الشعب اللبناني ضاقت ذرعاً بتصرفات “حزب الله”، وكثر بدأوا يطالبون بالتقسيم وفقدوا الأمل من التعايش مع “الحزب”، الذي يبدو أنه لا تصله التقارير التي تتحدّث عن أنّ الكنيسة تهدئ من روع الناس ومطالباتهم بالتقسيم للتخلُّص من جهنّم “الحزب” وعهده، فيُقدم على خطوة غير محسوبة العواقب معتقداً نفسه حاكماً بأمر الله على غرار ما كان عليه الوضع مع حافظ الأسد متناسياً أنّه في أضعف لحظة إقليمية ومحلية، وأن الناس اقترعت ضدّه في الانتخابات ولم تعد تريد العيش معه، وأنّه عاجز عن تأمين الخبز لها.

شارك المقال