في الطائف ورجال الدولة

صلاح تقي الدين

عندما قرر المجتمعان العربي والدولي وضع نهاية للحرب الأهلية التي عصفت بلبنان فترة 14 عاماً، انتقل النواب المنتخبون في العام 1972 إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية في العام 1989 لوضع اتفاق ينهي الحرب ويضع الأسس لبناء دولة لبنان الجديد، وكان من بين هؤلاء مشرّعون كبار وحقوقيون ورجال دولة شهدت لهم الأيام طول باعهم في إدارة شؤون البلاد والعباد وحسن سهرهم على النظام والدستور، لكن دورهم تقلّص بفعل سطوة السلاح والمسلحين وأصبحوا بمثابة شهود زور على ما يدور في طول البلاد وعرضها من أحداث دموية.

وكان للرعاية السعودية المقدّرة والمشكورة الدور الأكبر في وضع الاتفاق بصيغته النهائية، وبالاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا السهر على تطبيق الاتفاق لكي يعود الأمن والاستقرار إلى الربوع اللبنانية، غير أن العائق أمام بدء الانتقال إلى الحياة الطبيعية كان احتلال العماد ميشال عون القصر الرئاسي في بعبدا، ورفضه الاتفاق، فعادت الأمور إلى الوراء ميدانياً بعدما شن حربين خاسرتين جرياً على عادته، الأولى ضد الوجود السوري والثانية ضد “القوات اللبنانية” في محاولة لالغائها، وهدفه الاستفراد بالقرار المسيحي.

لكن قراراً دولياً وإقليمياً اتخذ مجدداً وقضى بإنهاء تمرّد عون، فشنّ سلاح الجو السوري غارات على المقر الرئاسي كما تقدمت قواته البرية إلى المنطقة التي كان يزعم عون أنها محررة، وصولاً إلى مقر قيادة الجيش ووزارة الدفاع في اليرزة ليحكم سيطرته على لبنان أمنياً وعسكرياً، وسياسياً في تشرين الأول 1990، لينتهي الأمر بعون فاراً إلى السفارة الفرنسية التي أمّنت له الانتقال إليها كلاجئ ومنعه من العمل السياسي المباشر لمدة 15 عاماً.

وانعقد المجلس النيابي في قاعدة القليعات الجوية بعيد عودة أعضائه من الطائف وأقّر وثيقة الوفاق الوطني وانتخبوا زميلهم رينيه معوض رئيساً للجمهورية، لكن أيادي الغدر اغتالته فسقط شهيداً يوم الاحتفال بعيد الاستقلال من ذلك العام، لكي يجتمع النواب مجدداً وينتخبوا من بينهم الرئيس الراحل الياس الهراوي رئيساً.

وكان من المفترض أن يبدأ تنفيذ اتفاق الطائف لكي تعود الأوضاع السياسية إلى الاستقرار، ومارس النواب ووزراء الحكومات المتعاقبة أدوارهم في صياغة القوانين الضرورية لذلك، لكن بدا أن الخلافات ذات الأبعاد الطائفية والمذهبية لا تزال تتحكم بذهنية “البعض” فكانت البلاد تشهد من حين إلى آخر سجالات تعيد إلى أذهان اللبنانيين مآسي الحرب التي اعتقدوا أنها انتهت إلى غير رجعة، لكن وجود نظام الوصاية السوري كان كفيلاً بصياغة التسويات التي ترضي الجميع فتهدأ الأمور وتعود إلى نصابها من دون الالتفات إلى حقيقة أن دستور الطائف لم يطبق كما يجب وأن بعض مواده بحاجة فعلية الى إعادة النظر أو تعديله.

وهذه المواد تتراوح بين قانون الانتخاب الذي نص الطائف على أن تجري الانتخابات خارج القيد الطائفي بعد إنشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية وإنشاء مجلس للشيوخ، غير أن هذه المواد لم تطبق ولم يكلّف النواب المتعاقبون منذ الانتخابات الأولى ما بعد الطائف في العام 1992، بوضع تصور يتيح تطبيق هذه المواد والانتقال بالبلاد من حالة الانقسام المذهبي الذي كان ولا يزال علّة العلل والسبب الأول والمباشر لتوتر الأجواء وارتفاع حدة الخطاب السياسي في كل حين.

وعقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005، بعدما كان لعب الدور الأكبر في توافق النواب في مدينة الطائف على صياغة الاتفاق، ثم ساهم بصورة رئيسة في إعادة الحياة إلى طبيعتها وإعادة بناء ما خرّبته الحرب، جاءت العلّة الأكبر حين تمت صياغة اتفاق “سري” بين رئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود والعماد ميشال عون يقضي بعودته من المنفى الباريسي، ليبدأ رحلة تخريب الطائف الذي ما رضي عنه يوماً، وأجلس إلى جانبه صهره “السلطان” جبران باسيل الذي أصبح الحجة التي يستخدمها دائماً في تعطيل إقرار القوانين في مجلس النواب أو تشكيل الحكومات إن لم تكن على ما يرغبه ويشتهيه.

وغني عن الذكر الحالات الكثيرة التي برع فيها عون وصهره في التعطيل، كما إن الاتفاق الذي عقده مع “حزب الله” في مار مخايل في العام 2006، أعطاهما من الثقة الزائدة في النفس للتحكم بمسار الأمور ما جعلهما يشكلان ممراً لا بد من العبور من خلاله في كل شاردة وواردة، تارة بحجة إقرار قوانين “الاصلاح والتغيير” والتي هي أبعد ما تكون عنهما، وتارة بحجة تأمين “الغطاء” المسيحي للحزب والذي هو بحاجة ماسة إليه لكي يمعن في التحكّم بالبلاد ومصادرة قرار السلم والحرب بحجة المقاومة.

ولم يتعّظ جبران من العقوبات التي فرضتها عليه الادارة الأميركية وفقاً لقانون ماغنتسكي ووصفه بأحد أهم الفاسدين في الادارة اللبنانية، لا بل أنه يروح في تحدّيه لهذه العقوبات تارة بمحاولة صياغة تسوية مع الجهات الأميركية لرفع اسمه عن لائحة “المعاقبين”، وتارة بابتزاز “حزب الله” أنه لم يعاقب سوى لأنه منحاز إلى جانبه وعليه بالتالي أن يكافئه على هذا الانحياز.

صحيح كما ذكرنا سابقاً أن بعض بنود اتفاق الطائف الذي أضحى الدستور المعمول به في البلاد، يحمل غموضاً يجب تفسيره، لكن مجلس النواب “سيد نفسه” كما يكرر الرئيس نبيه بري دائماً، وهو المرجع الوحيد الصالح لتفسير الدستور، كما أن من بين الذين صاغوا الدستور في الطائف رجال كبار أمثال العلامة حسن الرفاعي والمرحومون نصري المعلوف وأوغست باخوس، وأطال الله بعمر الرئيس حسين الحسيني والوزير والنائب السابق ادمون رزق وغيرهم، ولم يغوصوا في تفسير بنود الدستور على اعتبار أنهم اعتقدوا أن رجال دولة من أمثالهم سيأتون من بعدهم ليسهروا على حسن تطبيق هذه المواد، ولم يخطر يوماً ببالهم أن يكون من يخلفهم على مثال جبران باسيل الذي بالنسبة إليه يعتبر الدستور وجهة نظر يطبقه وفقاً لأهوائه ورغباته.

ربما حان الوقت لكي يجتمع النواب في خلوات مطوّلة تبحث في كيفية إخراج الغموض الذي يكتنف بعض مواد الدستور، وربما حان الوقت أيضاً لكي يعي هؤلاء ومعهم كل اللبنانيين أن الوقت حان لتطبيق الطائف بروحه ونصه وبنوده كافة، وعدم الاكتفاء بتطبيق المواد الاجرائية التي هي أيضاً بحاجة إلى تعديل بعدما أثبتت ألأيام والتطورات الحاجة الى ذلك، وربما حينها يمكن لجبران عدم التذرّع مجدداً بحجة “استعادة” حقوق المسيحيين والتي لم تعد إليهم أًصلاً، ولا أن يستقوي بعضلات “حزب الله” لكي يزعم أنه صاحب أكبر و”أقوى” كتلة مسيحية لكي يتحكّم بقرار انتخاب الرئيس الذي يراه مناسباً له ولمشروعه بالقضاء على ما تبقى من لبنان.

هذا نموذج عن رجال الدولة الذي بكل تأكيد لبنان ليس بحاجة إليه.

شارك المقال