في التاريخ!

علي نون
علي نون

من الصعب مبدئياً ومنطقياً وحسابياً أن تتضمن جملة واحدة من خمسة سطور نحو خمسين خطأً وخطيئة! لكننا في زمن العهد العوني، وذلك في ذاته وحاله وآلامه كافياً لأن تُسجل كل يوم: أمثولة جديدة تماثل تلك التي نحكي عنها.

الرئيس عون هنأ اللبنانيين بعيد التحرير، وتحدث بالجملة وكأنه مشارك ميداني بالمعارك التي أوصلت إلى الخامس والعشرين من أيار عام 2000… علماً أن التاريخ، الذي لم يمر عليه الزمن بعد ولم تطوه الذاكرة ولا محته يوميات من عاشوا آلام الاحتلال المباشر الذي بدأ في العام ١٩٧٨… ذلك التاريخ يفيد بأن حضرة الجنرال كان في مكان آخر تماماً كي لا يُقال أي شيء آخر! وهناك لمن لا يريد المهادنة أو المسايرة أو التطنيش أدلة مصورة عن الجهة التي كان فيها صاحب التهنئة اليوم! ويفترض من حيث اللياقات العامة وضرورات الحفر والتواضع ومتطلبات الوظيفة الرسمية الدستورية وغير ذلك كثير… يفترض تبعاً لذلك كله أن يحترم صاحب القول التاريخ الحي وعقول الناس، وقبل هذا وذاك وبعده وفوقه وتحته، أن لا يستخدم المناسبة لإطلاق إشارات دالة إلى دوام الشعارات التي لا مصداقية لها، والتي تعني بكل بساطة ممكنة وغير ممكنة أن أوضاعنا باقية على الأرض، متدحرجة باتجاه كارثة أكيدة لا يعرف مداها إلا رب العالمين .

جيد مبدئياً ووطنياً ومعنوياً أن يبدو صاحب الشأن متماهياً مع مناسبة وطنية كبيرة وحاسمة، مثل انتهاء الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي الجنوبي اللبناني، وأن يكون على السمع في توجيه التحية إلى هذه الذكرى وأصحابها… لكن ليس مستساغاً ولا معقولاً ولا مقبولاً أن تستغل المناسبة لتأكيد أو إعادة التأكيد على المضي في مسار كيدي أوصل (والله أعلم) معظم اللبنانيين إلى حد اليأس من كل أمل بغد أفضل وهم الذين خبروا وعركوا معنى الشعارات الفارغة من مضامينها ومعنى قول الشيء والتصرف بعكسه !

صار يأس اللبنانيين محصّناً كفاية ضد كل أنواع اللغو المجوج والتوعدات الضاريات بالسعي إلى ما يسمى إصلاحاً واقتداراً وسعياً حثيثاً إلى إعادة الدولة إلى منصبها المفقود! أو التعهد العنيد بالاستمرار على نهج أوصل لبنان وأهله إلى ذرى من التهتك والهريان والاضمحلال لم يشهد مثيلاً لها حتى تحت نير الاحتلال المدحور ولا حتى خلال الاجتياح الذي وصل إلى بيروت في العام ١٩٨٢ !

وصار صعباً على عموم من عانوا وخسروا، أن يقبلوا بأن لا تحترم معاناتهم وآلامهم وخسائرهم، وان يأتي أحدهم مهما كانت وظيفته كي يقلب الحقائق على كيفه وحسب مشتهاه ومصلحته وأن يصير بعد هذا موزّعاً محلّفاً للشهادات بالوطنية وأن يقرر تبعاً لمصلحته الذاتية الأنوية من يستحق التبريك والتهنئة بالعيد ومن لا يستحق لا هذه ولا تلك! تشويه التاريخ ليس لعبة سهلة وتغيير الجلود وفق الأهواء والمصالح الشخصية والخاصة ليس سهلاً أو من دون تبعات وكأن الناس غاشية وماشية! أو كأن قدرة اللبنانيين على السماح والغفران والاستمرار في ممارسة هوايتهم المفضلة بالتطنيش والتفنيص والمسايرة الخلقية والأدبية لا تزال على حالها التي كانت عليه أيام العز والسؤدد والبحبوحة والرحابة وراحة البال!

 

ما لا يعرفه صاحب الشأن، أن اللبنانيين في جملتهم الأكيدة صاروا في مكان آخر غير الذي تعدهم شعارات الفراغ والخواء بأخذهم إليه… قطعوا المسافة باتجاه ما بعد بعد بعد الامل والرجاء! ودخلوا في دهليز معتم كئيب ولا يلوح فيه أو في آخره أي ضوء أو احتمال لضوء! وقناعتهم التامة الاكيدة والحصينة والمكينة تفيد بأن صاحب الشأن الاول هو الملخّص السوبر لكل ذلك العدم والعبث والقنوط ووعود جهنم!

كلما لاح احتمال بضوء ما، جاء برواية تأزيمية جديدة وطازجة! وكلما حاول أحد ما أو دولة ما أو مبعوث ما أو وجيه ما أو مرجع روحي ما، أن يدوّر الزوايا الحادة أو يلطف دعسات الشوك أو يخفف من وحشة الطريق، خرج عليه صاحب الشأن الانوي بما يعيد كل شيء، كل شيء. إلى نقطة الصفر وما دون الصفر… وراحت الناس تلطم وتنتف الشعر خشية من الاسوأ والأنحس والأتعس والأظلم … ولا سقف لهذا البلاء والعناء !

 

جيد أن يحترم كل طرف تاريخه، وأن لا يعطي تبريرات غير مقنعة غذا كانت أحوال الزمان عاكست ذلك التاريخ، لكن ما ليس مستساغاً ولا لائقاً أن تقضي شروط الحرباء في محل شروط الصدقية واحترام الذات وأرواح الناس، الذين دفعوا حياتهم فداء معتقداتهم وأفكارهم ودفاعاً عن مصائرهم وبلادهم مثلما كانت شاخصة أمامهم أيام الحرب والاحتراب… وجيد أن يعمد من يشاء إلى إعادة قراءة ما مضى والتمحيص ببعض الخيارات التي اتخذت والتدقيق ببعض الخطوات الناقصة أو الزائدة وأن يعتمد النقد الذاتي أو العكس… لكن لا يُشرف أحد أن ينقلب على تاريخه ويلغيه من أساسه! أو أن لا يدافع عنه! حتى لو اكتشف اليوم أن ذلك التاريخ لم يعد ملائماً تماماً للظروف الحالية! ولم يعد مقبولاً الردح به وبأدبياته وتفاصيله وارتكاباته!

…هذا عيب كبير ولا يليق بأحد مهما تواضعت أحواله، فكيف الحال مع صاحب الشأن الذي نحن بصدده؟!

 

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً