إستهداف عون لرئاسة الحكومة مدخل للإطاحة بدستور “الطائف”

زياد سامي عيتاني

منذ التسوية “الجهنمية” التي أتت بالجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، وضع هدفاً مركزياً نصب عينيه، تمثّل في الانقلاب على دستور “الطائف”، بعدما كان قد أقسم عليه! وذلك بهدف إسقاطه، تحقيقاً لما يختزنه في نفسه من تمرّد متأصل وراسخ عنده، منذ استيلائه عنوة على قصر بعبدا، وخوضه حروباً عبثية خاسرة جلبت التنازلات والنكبات على المسيحيين خصوصاً، واللبنانيين عموماً، على الرغم من كلّ المحاولات التي لم يكترث لها، بأن يكون جزءاً من التسوية الدولية – الاقليمية بإنهاء الحرب اللبنانية، بعدما نضجت ظروفها.

غير أنّ تعنّته وفوقيّته ورهاناته المميتة، وعدم قراءته للمتغيرات، جعلته يقف حائلاً دون الاعتراف بإتفاق “الطائف” الذي أقره مجلس النواب دستوراً جديداً للبلاد، والذي حظي بمباركة بكركي وبتأييد السواد الأعظم من القيادات والأحزاب المسيحيّة وفي مقدمها “القوات اللبنانية”، وبالتالي رفض تسليم القصر الجمهوري للرئيس الشهيد رينيه معوض ولخلفه الرئيس الراحل إلياس الهراوي، اللذين إنتخبا لملء الشغور في موقع الرئاسة، عقب إنتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل.

وبما أنّ القرار الدولي والاقليمي اتُخذ لوقف الحرب اللبنانية، على قاعدة الوفاق الوطني (الذي انخرطت فيه كلّ الأطراف المتقاتلة)، والشروع في تنفيذ البنود الاصلاحية التي نصّت عليها “وثيقة الوفاق الوطني”، فإنّ ذلك التحوّل الكبير، لم يكن ليسمح بإبقاء حالة التمرّد “العونية” التي هي أقرب إلى “المغامرة الانتحارية”(!) الأمر الذي دفع الجيش السوري وبغطاء دولي وإقليمي الى القيام بعملية عسكرية لانهاء حالة التمرّد، أسفرت عن الإطاحة بها، مما دفع الجنرال عون للجوء هرباً إلى السفارة الفرنسية، متخلّياً عن كلّ “عنترياته” الوهمية وعن جيشه وشرفه العسكري، وحتى عائلته!.

يتبيّن من كلّ ذلك أن موقف الرئيس عون الرافض لاتفاق “الطائف”، هو رفض مزمن، وأكثر من ذلك، يرى فيه سبب هزيمته المهينة والمعيبة، منذ أن دفعته نرجسيّته الى أن يعتبر نفسه الحاكم الأوحد باسم “الشعب اللبناني العظيم”!.

لذلك، عندما فرض “حزب الله” جنرال “الرابية” رئيساً، بعد فراغ قياسي في موقع الرئاسة الأولى، زاد عن السنتين، متسبباً بشلل شبه تام في عمل المؤسسات الدستورية ومختلف إدارات الدولة، وجد عون “الرئيس” فرصته الذهبية للانتقام من “الطائف”، من خلال خوض معركته الإنقلابية للإطاحة به، رافعاً لتبرير معركته شعار “إستعادة حقوق المسيحيين”، بحيث لم يكن يخفي في مجالسه أن السنّة هم من سلبوها من الرئيس المسيحي، واصفاً إياهم بالغرباء والمتطرفين (!) وذلك كسباً للتأييد الشعبي المسيحي، وخدمة لما بدأ يلوح في أفق المنطقة من مشروع “حكم الأقليات” التفتيتي لشعوبها ودولها المركزية.

كما لا بدّ من الاعتراف بأن الرئيس عون عرف كيف يستفيد من فريق “الممانعة”، الذي بات هو أحد أركانه وغطاءه المسيحي، بحيث إستشعر أن المكوّن المتأثر والممسك بذلك الفريق، يسعى الى قلب التوازنات الداخلية، من خلال سعيه الى مؤتمر تأسيسي أو الى عقد إجتماعي جديد، بديلاً عن “الطائف” للحصول على مكتسبات وإمتيازات سلطوية، تمكّنه من بسط سلطته “التسيّدية” على الدولة والامساك بكلّ مقدراتها السياسية والعسكرية والمالية وسواها، في لحظة سياسية إقليمية، وجد نفسه مزهواً بإنتصار محوره في الإقليم، ما يجعله قادراً على إعلان إنتصاره على الدولة.

لم يجد الرئيس عون سبيلاً لخوض معركته الإنقلابية على “الطائف” سوى إستهداف موقع رئاسة الحكومة (بكلّ ما يمثل وطنياً ودستورياً وميثاقياً)، ما يمنحه (بحسب إعتقاده) تأييداً شعبويّاً واسعاً في الأوساط المسيحيّة، وفي المقابل كان على قناعة أنّ ذلك لن يشكّل أيّ إحراج سياسي لباقي المكوّنات اللبنانية.

فعمد وتياره وفريقه الاستشاري منذ اللحظة الأولى، إلى وضع منهج (أسلوب عمل) لكيفيّة التعاطي التهميشي والتهشيمي مع كلّ رئيس مكلّف، من خلال تقويض صلاحياته وتحجيمها من جهة، وتعطيل وعرقلة تمكينه من تشكيل حكومة بكامل إرادته، تلبي مقتضيات المرحلة، وتحاكي رؤيته، لتكون بمثابة فريق عمل متجانس، وفقاً لتقديراته، قادر على مواجهة التحديات، من جهة ثانية.

وإزاء هذا التعنت، ما من رئيس حكومة في عهده، كلّف بموجب الاستشارات النيابية الملزمة تشكيل الحكومة، إلا وعانى ما لا يحتمل من الصعاب والعراقيل، من خلال المراوغة والمماطلة وفرض الشروط التعجيزية المتعلّقة بعدد الوزراء والأسماء وتوزيع الحقائب، وبعدها البيان الوزاري، من دون إغفال التعاطي المشين والمسيء مع الرئيس المكلّف، والذي يفتقد أدنى الأصول والأعراف الدستورية، وحتى أدب المخاطبة.

أما بعد نيل الحكومة الثقة، وبدلاً من أن يتحوّل مجلس الوزراء مجتمعاً كلسطة تنفيذية إلى ورشة عمل دائمة، لوضع بيانها الوزاري موضع التنفيذ، فإذا بالمماحكات والمناكفات والمراوغة والمماطلة في النقاشات العقيمة والعبثية، تجعلها عاجزة وقاصرة عن إقرار الخطط والمشاريع والسياسات الإنقاذية والإستنهاضية، من ضمن خطة ممنهجة ومبرمجة لشلّ عمل مجلس الوزراء، وإفشال رئيسه، وتحميله مسؤولية الإخفاق.

وأمام ذلك العبث بالدستور وخروج رئيس الجمهورية عن دوره “الحكم” و”الجامع” لكلّ القوى السياسية، لم يكن من خيار أمام كلّ رؤساء الحكومات المكلّفين تأليف حكوماتهم (باستثناء حسان دياب)، وبدافع تحمّل المسؤولية الوطنية في ظروف بالغة الخطورة إلا تقديم تنازلات، ليس إسترضاءً لرئيس الجمهورية، بل للمصلحة الوطنية العليا، على الرغم من أن أغلبهم دفعوا أثماناً باهظة سياسياً (محلياً وخارجياً) وشعبياً، نظير تضحياتهم، لكي يستقيم عمل المؤسسات الدستورية وينتظم عمل الادارات الحكومية، ولكن من دون جدوى بحيث أن الجهة المعطلة (رئيس الجمهورية وفريقه) لم تأبه لكلّ التداعيات والانعكاسات الكارثية التي أوصلت البلاد والعباد الى الإنهيار الشامل، وفوّتت على لبنان واللبنانيين فرصاً تاريخية لن تتكرر للإنقاذ والتعافي، من أبرزها مؤتمر “سيدر”.

إذاً، الهدف الاستراتيجي للرئيس عون طيلة السنوات الست من حكمه، الاطاحة بدستور “الطائف” من خلال التصويب والتركيز على مقام رئاسة الحكومة ومؤسّسة مجلس الوزراء، على الرغم من أنه لم يوفّر فريقاً إلا وخاض معه معارك سياسية، لكنّها بقيت هامشية وفرعية أمام “أم معاركه”، التي ستزداد شراسة في الأسابيع الفاصلة من نهاية عهده، خصوصاً في حال لم ينتخب رئيس جديد خلال المهلة القانونية، ولأنّ إحتمال حصول فراغ رئاسي وارد جداً حسب كلّ التقديرات والتوقّعات، بحيث يحاول مستشاره القانوني إبتكار إجتهادات دستورية “غير دستورية” للتحايل على المادة 62 من الدستور لعدم إنتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء، ونصت على أنه “في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”، ليضع بذلك البلد الذي بات على شفير الانهيار الشامل أمام أزمة وطنية ودستوريّة وميثاقيّة معقّدة، كفيلة بأن تقضي على ما تبقى منه، وتضعه أمام المصير المجهول.

شارك المقال