الحلّ بالطائف أولاً

صلاح تقي الدين

تصدّرت حركة سفير خادم الحرمين الشريفين في لبنان وليد بخاري في الأيام القليلة الماضية المشهد السياسي العام في لبنان، وانقسمت التحليلات بين مؤيد ومبارك لهذه الحركة، وبين من وضعها في إطار التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، كما لو أن هؤلاء المنتقدين أبرياء من “دم” التدخل في شؤون لبنان، لكن العنوان الأكبر لهذه الحركة يمكن تلخيصه بـ “الطائف أولاً”.

فعقب زيارة السفير بخاري الى رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، خرج الأخير ليعلن أن الهدف الرئيس من اللقاء كان تثبيت هوية لبنان العربي وحسن تطبيق اتفاق الطائف، وهو ما أكّد عليه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي اجتمع إلى بخاري ليؤكد أن الهم الرئيس الذي تباحثا فيه هو كيفية تثبيت انتماء لبنان العربي.

وأعلن جنبلاط عقب اللقاء مع بخاري “تداولنا في العديد من الأمور، لكنّ السفير أكّد حرص المملكة التاريخي على الاستقرار اللبناني واتفاق الطائف والدستور، وعلينا نحن اللبنانيين أن نحترم المواعيد الدستورية وننتخب رئيساً”.

لم يفوّت جنبلاط مناسبة إلا وشدّد فيها على ضرورة الالتزام بدستور الطائف، منتقداً الدعوات إلى إجراء تعديلات تطاله، ومطالباً بضرورة تطبيق ما لم يطبق من هذا الدستور وتحديداً إنشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي، كما إنشاء مجلس للشيوخ يتولى رعاية هواجس الطوائف اللبنانية.

لقد كان اتفاق الطائف ثمرة الجهود التي بذلها المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز والذي وضع حداً للحرب الأهلية التي عصفت بلبنان طيلة 15 عاماً، وكان إقرار الوثيقة التي أصبحت لاحقاً الدستور الناظم للحياة السياسية في لبنان قد حظي بشبه إجماع اللبنانيين التواقين في حينه إلى السلام والاستقرار وعودة الحياة إلى طبيعتها، باستثناء المعارضة الشرسة التي عبّر عنها قبل إقرارها وبعده الرئيس الحالي ميشال عون.

وإن كانت معارضة عون قد فشلت في حينها، إلا أن محاولاته لم تتوقف فيما بعد، على الرغم من أنه بعد خروجه المذل من قصر بعبدا على وقع قصف طائرات “السوخوي” السورية، عاد وقبل بالانضواء تحت الاتفاق، فرجع من منفاه الباريسي لينتخب في العام 2005 على رأس كتلة نيابية وازنة، ثم عاد وقبل بأن ينتخب رئيساً للجمهورية وفقاً لدستور الطائف، لكن ما خفي في داخله بدأ يظهر بوضوح في ممارسته الرئاسية، وآخر تجلياتها كان تصريحه بالأمس القريب خلال استقباله وفداً من سفراء الاتحاد الأوروبي، وقال: “لبنان يحتاج إلى إصلاح سياسي وسيادي بالإضافة إلى تغييرات بنيوية في النظام”.

لم يبلع عون يوماً أن المجتمعين في مدينة الطائف السعودية قرروا إقرار وثيقة الوفاق الوطني ولم يتوافقوا على انتخابه رئيساً للجمهورية، وإن كانت اعتراضاته في الشكل تمحورت حول انتزاع بعض صلاحيات الرئيس “الماروني” وإيكالها إلى مجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة “السني”، اذ لطالما نادى بـ”استرجاع” حقوق المسيحيين وهو الشعار الذي تولى صهره الميمون رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل رفعه في كل حال وحين، خصوصاً عشية الانتخابات النيابية، مثبتاً بذلك حقيقة المشاعر الدفينة لديه ولدى عمه من هذا الدستور.

غير أن المثل الشائع “الشمس طالعة والناس قاشعة” فضح كل ممارسات عون وصهره، فباسيل لجأ إلى “حزب الله” منذ العام 2006 عقب اتفاق مار مخايل، لتعزيز وضعه النيابي والسياسي، كيف لا، وهو لم يستطع الفوز في الانتخابات النيابية الأخيرة لولا الدعم غير المحدود الذي تلقاه من “حزب الله” والناخبين الشيعة الذين ساهموا في إعطائه ما بين خمسة وستة نواب “مسيحيين” أضافهم جبران الى ما معه بامتلاك “أكبر” كتلة مسيحية في المجلس النيابي.

ولم تتوقف ممارسات الفريق العوني بالاعتراض العلني على دستور الطائف فحسب، بل حشدت أقلام صحافية ومواقع الكترونية راحت تنشر مقالات وتحليلات تزعم أن سبب الأزمات السياسية في لبنان يعود أصلاً إلى الخلل في النظام، وليس خللاً في الحكم، محاولين بذلك إبعاد أصابع الاتهام عن الوصول إلى هذه الحالة الرديئة اجتماعياً، مالياً ونقدياً واقتصادياً عن سوء الادارة التي تسبب بها “العهد القوي”، لكن المؤمنين بالطائف ودستوره كانوا لهم بالمرصاد، وجولة سفير خادم الحرمين الشريفين هي للتأكيد على أهمية هذا الدستور وضرورة الالتزام به وعدم التفكير في الخروج عنه.

وهذا ما أكّد عليه جعجع عقب اجتماعه إلى بخاري، فقال: “لا خلاص للبنان إلا بعمقه العربي”، مشدّداً على أنّ “الخلاص الوحيد للبنان تمسك أهله به وبدستوره وباتفاق الطائف”.

لن تتوقف حركة السفير بخاري عند جنبلاط وجعجع، بل من المنتظر أن يستكملها بلقاء النواب السنة في دار الفتوى في اليومين المقبلين، والهدف لن يكون محاولة جمع كلمة النواب الذين تفرقوا عقب اعتكاف الرئيس سعد الحريري عن الحياة السياسية “مؤقتاً” فحسب، بل سيكون البند الرئيس في الاجتماع أيضاً، وأيضاً ضرورة تطبيق دستور الطائف والالتزام بعمق لبنان العربي وانتخاب رئيس للجمهورية ضمن المواعيد الدستورية.

وتأكيداً على موقف المملكة العربية السعودية من تمسكها بالطائف، غرّد السفير بخاري عبر موقع “تويتر” قائلاً: “إتِّفاقُ الطائفِ غيرُ صالحٍ للإنتقاءِ وغيرُ قابلٍ للتّجزِئة”.

وعلى الرغم من أن الانتخابات الرئاسية تبدو لحينه صعبة المنال في وقتها المحدد دستورياً، إنما يمكن رفع شعار المرحلة الحالية التي سترافق الحملات “الرئاسية” تحت عنوان “الطائف أولاً” لأن أي نية مبيتة خلاف ذلك ستؤدي حتماً إلى افتراق وطلاق بين اللبنانيين، وهي عبارات وردت على لسان العديد من السياسيين مؤخراً وفي مقدمهم الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله.

حمى الله لبنان.

شارك المقال