معركة الحفاظ على لبنان بدأت

زياد سامي عيتاني

الرئيس السابق ميشال عون وعهده، باتا من الماضي…

نهاية عهده، وخروجه من قصر بعبدا، على الرغم من أزمات العهد التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها في ولاية واحدة، ليسا مناسبة إحتفالية كرنفالية، كما انقسم اللبنانيون (كعادتهم) في التعبير عنها، بل بداية لمرحلة جديدة من الأزمة اللبنانية البنيوية العميقة عمودياً وأفقياً، والصراع الجوهري بين المكوّنات اللبنانية على مستقبل النظام، وتركيبته وموازينه.

فلبنان المتروك لقدره، دخل مرة جديدة في الفراغ الدستوري الحاد، مع غياب أيّ مبادرات جدّية محليّة أو خارجيّة، قادرة على إيجاد تسوية لملء الشغور الرئاسي، تمهيداً لاعادة عمل الدولة ومؤسساتها وسلطاتها الدستورية إلى نصابها، وسط تدحرجها المتسارع نحو قعر الانهيار الشامل.

هذا التأزّم “الفراغي”، الذي يقابله أصحاب الرؤوس الحامية، برفع مطالبهم السياسيّة التعجيزيّة، التي تتمحور حول إدخال تعديلات على النظام اللبناني وعلى شكل إدارة السلطات الدستورية وطريقتها، وخصوصاً السلطة التنفيذية، من خلال المجاهرة بنسف إتفاق الطائف والإطاحة به، والمطالبة بعقد إجتماعي ناظم للدولة وسلطاتها، يؤشر إلى أن المواجهة السياسية ستتركّز مع بداية الفراغ المرشح أن يطول أمده، على إعادة توزيع الصلاحيات والمكاسب والمناصب الأساسية في الدولة، لا سيما من القوى التي لم تعد ترى في الدستور الحالي ما يلبي طموحاتها السلطوية، تبعاً لأحجامها السياسية، وإن اختلفت رؤى الأطراف بشأن البديل عن “الطائف”، إلا أنّ ما يجمعها هو نسفه، وإن تحت مسميات تلطيفية، وفي مقدمها “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”.

فعهد الرئيس السابق ميشال عون، كانت سمته الأساسية الامعان في خرق النصوص والأحكام الدستورية، بحيث كان مَن بدأ “معركة الطائف” في عهد متفجّر، بعدما شهد إشتباكاً حقيقياً بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثالثة حول “الصلاحيّات” و”الممارسة” على حدّ سواء.

وعلى الرغم من العداء التاريخي بين عون وإتفاق الطائف منذ أن كان جنرالاً في قصر بعبدا عام 1989، فإنّه وفريقه السياسي لم يكونا ليجرؤا على مثل هذه الممارسات المهدّدة للوحدة الوطنية، لولا تماهيهما وملازمتهما مضيّ “حزب الله” قدماً نحو فرض تعديلات جذرية على النظام اللبناني، وإعادة النظر في الدستور عموماً، وذلك إنسجاماً مع ما يعتبره حقاً مشروعاً له، تكريساً وتتويجاً لمزاعمه بما حقّقه من إنتصارات على أكثر من جبهة، والتي كان آخرها إبرام لبنان إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني بواسطة “مسيّراته”، والذي سوّق إنتصاراً مزدوجاً للحزب وللعهد، (مع تغييب متعمّد لدور الجيش اللبناني)، في حين أنّه واقعياً يحقق مصالح إسرائيل ويقدم لايران جائزة “المُسهِّل” لهذا الإتفاق، كورقة تعزّز موقعها التفاوضي مع الادارة الأميركية على الملفات الخلافية، مقابل الإقرار بشرعنة نفوذها في لبنان، وإطلاق يد ذراعها فيه للإمساك بالسلطة وكل مفاصل مؤسساتها الدستورية والعسكرية والقضائية، والهيمنة نهائياً عليه!.

لذلك، فإنّ “حزب الله” يدير مرحلة الفراغ الدستوري، لا بل “الفوضى الدستورية”، موزعاً الأدوار على حلفائه، بإنتظار نضوج الظروف لفرض رئيس جمهورية بمواصفاته، يعقبه تشكيل حكومة تراعي قواعد اللعبة الجديدة وتعكس توجهاته، ويتعهدان ويضمنان له مسبقاً ضرورة إنعقاد مؤتمر “تأسيسي” (صوري)، غير متكافئ، بصرف النظر عن تسميته، يغيّر قواعد المعادلة الوطنية وأسس النظام ومرتكزاته، من خلال الإلزام بإعادة النظر في التوازنات والأحجام السياسية في التركيبة اللبنانية السلطوية، على قاعدة “الغالب والمغلوب”.

وهذا المسار الأمرّ سيمكّن الحزب من الحصول على مكتسبات سياسية وسلطوية ومناصبية في مختلف مؤسسات الدولة (على حساب المسيحيين والسّنّة)، فضلاً عن تغيير وجه لبنان ودوره ووظيفته على الصعد كافة، لاسيما هويّته العربية، وسياساته الخارجية، ونظامه الاقتصادي والمالي، وتعدّده الثقافي والحضاري، وذلك اقتناعاً منه بأن ذلك حق مشروع له، وثمن مؤجل لكل تضحياته التي قدمها، حان وقت الحصول على ثمنها!.

بناءً على هذا الواقع الذي دخل فيه لبنان جدّياً وفعلياً مرحلة بالغة الخطورة، حيث أن مستقبل نظامه السياسي على “كفّ حزب الله”، فإنّ المعركة الحقيقية باتت تتركّز على المحافظة على الجمهورية وعلى دستور “الطائف” والتوازن الوطني القائم على المناصفة، وعلى التمسّك بهويّته وإنتمائه العربيين، والتصدي لكلّ المحاولات الضارية لتغيير هويّته ووجهه ودوره، وإستعادة قراره السيادي، مما يتطلب من القوى السياسية والنّخب وهيئات المجتمع المدني والنقابات (المستقلة) الحريصة على هذا “اللبنان”، أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية الوطنية، وأن تجعل هذه العناوين مشروعاً وطنياً وبرنامجاً نضالياً لمعركتها السياسية المصيرية، وأنْ تتوحّد وتجهد وتتفانى من أجل تنفيذه، لإحباط ما يجري التحضير له في “الغرف السود” للإطاحة بلبنان الوطن والدولة والكيان.

فهل يتبلور سريعاً مشروع وطني جدّي للحفاظ على الجمهورية في مواجهة مشروع الاطاحة بها؟

شارك المقال