السوريون لن يغادروا… ماذا لو؟

أنطوني جعجع

اذا كان صحيحاً أن هناك ٦٦٩ سورياً يقطنون في الكيلومتر المربع الواحد، فالسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بقي من لبنان؟ وماذا بقي للبنانيين؟

لا شك في أن هناك أمراً غريباً يجري في لبنان يشبه الى حد ما، ما حدث في سبعينيات القرن الماضي عندما كثر الحديث عن وطن بديل للفلسطينيين على حساب المسيحيين الذين حملوا السلاح وغرقوا في حرب أهلية واقليمية انتهت بتسوية تحمل في طياتها الكثير من الثغرات والالتباسات والألغام، والكثير من صراعات المحاصصة والنفوذ.

هذا الشك برز في أمرين لافتين، الأول في تحذيرات البطريرك الماروني بشارة الراعي الخائف على رعيته من جهة والكيان النهائي من جهة ثانية، والثاني في الهجرة المسيحية الكثيفة التي حوّلت الكثير من المناطق الى ملاذات واسعة وآمنة للنازحين السوريين.

وهذا الشك برز أيضاً في تصرفات الكثير من السوريبن الذين يتعاملون مع لبنان وكأنه جزء مسلوب من سوريا، ومع اللبنانيين وكأنهم مصدر رزق وفير سواء بالحلال أو بالحرام منطلقين من اقتناع راسخ بأنهم يعيشون في أرض سائبة لا نظام فيها ولا حدود ولا أي قوة رادعة.

وهذا الشك برز أيضاً وأيضاً في إصرار المجتمع الدولي على إبقائهم في لبنان والحؤول دون اعادتهم الى سوريا بحجة “الحرص على سلامتهم”، في خطوة وصلت بالبعض الى حد المجاهرة باحتمال توطينهم حيث هم في صورة دائمة على الرغم مما يعانيه لبنان من أزمات إقتصادية ومالية خانقة، وعلى الرغم من حساسيات ديموغرافية دقيقة واحتكاكات بين السوريين واللبنانيين كادت تصل في بعض المناطق الى حدود “الحرب الأهلية”.

وهنا لا بد من أسئلة جوهرية:

هل هناك تخوف غربي من أن يؤدي تفكيك المخيمات السورية الى تكوين قوافل بحرية نحو أوروبا الغارقة في موجة لاجئين يهددون أنظمتها واقتصادها وتكوينها الديموغرافي؟

وهل هناك نية خفية تهدف الى تكوين جبهة سنية كبيرة قادرة على الوقوف في وجه المد الشيعي الذي يمثله “حزب الله”؟

وهل هناك توطين آخر على حساب المسيحيين والمعارضة السنية والدرزية المعتدلة يتخذ اليوم شكلاً سورياً لا فلسطينياً؟

وهل هناك مشروع تقسيم أو فدرلة بات الترياق الوحيد للأزمات الطائفية والعرقية التي تندلع بين الحين والآخر، ومن دون غالب ومغلوب، سواء في لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن وصولاً الى ليبيا وسواها من المناطق التي يصعب على أقلياتها التعايش في صورة دائمة وحقيقية؟

وهل هناك اتفاق ضمني مع نظام بشار الأسد الذي يرفض ترسيم الحدود البحرية والبرية مع “لبنان السليب”، يقضي بتغيير التركيبة المذهبية في سوريا من خلال نشر السكان السنة في لبنان والأردن والعراق وتركيا وإبعادهم عن “الدويلات” العلوية والشيعية والكردية والتركية التي قامت بعد الحرب؟

أسئلة عدة، يصح الكثير منها ولا يصح الكثير أيضاً، لكنها تبقى أسئلة مشروعة في وقت انحسرت الحرب في سوريا وبات النازحون قادرين على الاقامة في مناطق لا تخضع لجيش الأسد أو لـ “الحرس الثوري” أو حتى لـ”حزب الله”.

في انتظار ما يمكن أن يعطي اجابات عن هذه الأسئلة، لا بد من سؤال طبيعي: أين “حزب الله” من ملف يعنيه في صورة مباشرة سواء في لبنان أو في سوريا؟ لماذا هذا الصمت وهو المدرك أن بقاء أكثر من مليوني سوري في البلاد ليس خبراً طيباً ولا يخدم مشروعه العقائدي الممتد من طهران الى البحر المتوسط؟

وماذا لو تبين أن هذه المخيمات ليست الا قنابل موقوتة يتحكم بصواعقها أكثر من طرف؟

قد يقول قائل إن “حزب الله” يشكل العنصر الأكثر استفادة من هجرة بعض المسيحيين سواء في اتجاه الداخل أو الخارج، في وقت يعمل على شراء أراضيهم وممتلكاتهم سعياً الى مزيد من الانتشار والتوسع الجيوسياسي في مناطق محددة يعتبرها مصدر خطر أو معقل “عمالة” أو وكر “كفر ومجون”، لكن السؤال يبقى: اذا كان هذا الأمر على مستوى “التذويب” المسيحي مفيداً، فماذا لو تبين أن النازحين السوريين يناصرون “داعش” أو “النصرة” أو أي جبهة أصولية أخرى، أو أنهم من أعداء بشار الأسد أو من رافضي الخضوع لمشيئة حسن نصر الله؟

وأخيراً، ماذا يبقى من لبنان التنوع ومن اتفاق الطائف، اذا واصل قسم كبير من المسيحيين والمعتدلين السنة بيع ما يملكون والانتقال الى بلدان أخرى في صورة نهائية؟ وماذا يمكن أن يحدث بالنسبة الى التعايش الشيعي – السني؟ والتعايش المسيحي – الاسلامي؟ وماذا يمكن أن يبقى من لبنان الذي سيجد نفسه مضطراً الى الاختيار بين البقاء بلداً عربياً متنوعاً ومستقلاً أو التحول جزءاً من “سوريا الجديدة” أو جزءاً من الهلال الايراني؟

في الانتظار، تعج السجون اللبنانية بنحو ٤٠% من النزلاء السوريين المتورطين في الكثير من الجرائم المتعددة، وتحول الكثير من النازحين الى قادة مافيات تعمل على تهريب الأموال الصعبة والمحروقات والأسلحة عبر الحدود بالتنسيق مع خلايا لبنانية، وتعايشت الغالبية منهم مع “الوطن الجديد” معتبرة أنها أخطأت في الأمس عندما انسحبت منه عسكرياً، وأنها اليوم لن تخطئ مدنياً في الانسحاب من مظلة دولية تحميها وترعاها في كل المجالات المالية والاجتماعية والتمريضية والتربوية والحقوقية وحتى الأمنية.

لا شك في أن لبنان في مأزق لا أفق له، فهو تحول الى بلد متسكع بالنسبة الى شعبه، وتحول بالنسبة الى السوريين دجاجة تبيض ذهباً، وبالنسبة الى العالم بؤرة يرمي فيها أثقالاً لا يقوى على حملها أو لا يرغب في حملها، في وقت يشتد عصب “المهاجرين” في الغرب وعصب اليمين المتطرف في المقابل، وسط أجواء توحي بأن الحروب الأهلية لا تقع في دول العالم الثالث وحسب، بل يمكن أن تقع أيضاً في بروكسل وباريس ولندن وبرلين التي يتعاظم فيها نفوذ النازيين الجدد المستنفرين ضد أي شيء لا يكون من “العرق المتفوق”.

انه النزوح الذي بدأ لاعتبارات انسانية ثم لاعتبارات أمنية، ثم لاعتبارات اقتصادية، ثم لاعتبارات ديموغرافية ثم لاعتبارات دولية، وكل ذلك قبل أن يجد لبنان نفسه أمام أمرين: اما الدخول في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي تنتهي بطرد النازحين بالقوة، واما التعايش مع جسم غريب يمكن أن يتحول يوماً ما الى “حصان طروادة”.

شارك المقال