سنة أولى تعليق… الحريري الأقوى

محمد نمر
محمد نمر

سنة أولى على القرار “الصادم” الذي اتخذه الرئيس سعد الحريري بتعليق عمله السياسي وعدم خوضه و”تيار المستقبل” الانتخابات النيابية… سنة تبدت فيها كل مفاعيل القرار في كل مفاصل الحياة السياسية اللبنانية.

بعد ظهر الاثنين في 24 كانون الثاني 2021… كان إيذاناً بحقبة جديدة للسياسة الحريرية… أو “الحريرية الوطنية” كما يحلو للبعض توصيفها.

نتذكر يومها أن كثيرين راهنوا على أن سعد الحريري لن يفعلها، أو أن كلمة سر ستدفعه الى العودة عن قراره، علماً أن الأجواء الحزبية والنشاطات الأخيرة خصوصاً داخل التيار والكتلة أكدت مضيه بخطته. حتى القوى السياسية كانت تضع ما يقال وما ينقل في صندوقة المناورات السياسية وغاب عنها أن الحريري “فيه وبده”.

قبل ثلاثة أسابيع من قرار التعليق، نقلتُ لمسؤول عربي بأن “الحريري سيعلق عمله السياسي”، فكانت اجابته سريعة، وأضعها تحت عنوان رد الفعل: “كارثة”، ليعود ويسيطر على كلامه السياسي، بتقويم للتجربة الماضية.

وقبل 20 يوماً كانت لي زيارة الى عين التينة، وهو اللقاء الأول لموقع “لبنان الكبير” مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، أعلن فيه بصورة واضحة أن أي “انكفاء للحريري في الانتخابات له تداعيات على البرلمان”. وفعلاً هذا ما أثبتته نتائج الانتخابات وما بعدها. وفي الكواليس وما أن دخلت مكتب دولته حتى استقبلني بجملة تظهر حجم معارضته (بري) لقرار الحريري، خصوصاً أن الأخير كان قد غاب فترة قصيرة في الخارج من دون أي لقاءات سياسية، يومها قال لي بعد المصافحة والسلام: “اذا أخد قراره أيجيش واذا بدو نتناقش فهون بيته وأهلا وسهلا فيه”. طبعاً حاول بري كثيراً أن يضغط على الحريري ليتراجع عن قراره، لكن الأخير كان مصراً.

وقبل اثنين القرار بيومين، زار رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الرئيس الحريري محاولاً فهم حيثيات القرار، وكرر زيارته مساء الاثنين مثبتاً علاقة تاريخية بين آل جنبلاط وآل الحريري. كان ذكياً البيك في تصرفه مع زعامة وطنية علّقت عملها السياسي، بعكس تصرف رئيس “القوات” سمير جعجع “غير الحكيم” آنذاك والمتأخر باصدار بيان “التعاطف” الذي “زاد الطين بلة” في العلاقة بين “القوات” و”المستقبل” وغالبية السنة. فلم يكن الحريري الذي أخرج الآخرين من السجن، رافعاً اصبعي النصر ينتظر تعاطف أحد أو مواقف أي جهة لبنانية أو خارجية. لقد اتخذ قراره ومشى.

بعد الخطاب بقي كثيرون في قاعة بيت الوسط. يحدّثون أنفسهم ويسألون ماذا يعني؟ وكيف؟ وماذا بعد؟ أشبه بحالة ضوضاء في الرأس وعجز عن تصويب القراءات، فهي المرة الأولى التي يشهد فيها لبنان زعيماً قوياً يعلق عمله السياسي وتياره.

طبعاً شكّل القرار ضربة لمحبي المناصب والمحافل ولعشاق النيابة والوزارة، خصوصاً الذين يأخذون من الحريري غطاء لحركتهم.

في صالون مكتبه أحيط الحريري بمحبين وببعض الخائفين على مصالحهم، فيما يتوافد نواب ووزراء وشخصيات ليلتقوا به، وساد صمت الصدمة. جلس الحريري بعدما استبدل بزته الرسمية بالسبور يراقب وجوه الناس، وبصوت هادئ أراد أن يكسر سكوت الحاضرين، فسأل: ما رأيكم؟ وابتسم محاولاً اسقاط وجه الحزن عن كثيرين “صادقين”، من دون أن يكشف عن “غصة” بداخله تجاه البلد.

كان السؤال الأول: هل هناك من فرض عليكم القرار؟ فأجاب: “خطابي كان واضحاً لم يضغط علي أي أحد واتخذت قراري بنفسي وبعد قراءة دقيقة لوضع البلد، والله يحمي لبنان”. وماذا بعد القرار؟ رد سريعاً: “الناس، سنعود الى صفوفهم ونكون معهم كما كنا وكان رفيق الحريري”.

وعند باب المكتب حاجة في نهاية الستين، تنتظر فرصة خروج الحريري من مكتبه. تعابير الصدمة على وجهها وتبحث عن أي اجابة، مرددة “الله لا يوفقهم شو عملوا فيه الله ينتقم منهم”. وعند بوابة بيت الوسط الداخلية فتاة فتية تبكي مساندة الجدار، منتظرة أيضاً الفرصة لتلتقي به. سألت من تكون؟ فهمس أحد الحراس: الرئيس الحريري كوالد لها وهي يتيمة وتكفل بها وساهم في تربيتها ومتابعة دراستها.

انتهى اليوم. وغادر الحريري لبنان متوجهاً الى أبو ظبي ليعود في 14 شباط حاشداً بصمت الآلاف، عند ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري ليكون أشبه بـ “الى اللقاء” وليس “وداعاً”.

وبدأ بعدها عدّ الأيام، فكانت مرحلة ما قبل الانتخابات الأكثر صعوبة والاستحقاق على الأبواب والطمع بالكرسي النيابي يتسع. حركة بلا بركة للسيد بهاء الحريري، محاولة من الرئيس فؤاد السنيورة وجهود منوعة بحثاً عن الصوت الانتخابي السني، وانقضاض على إرث الحريري والسنة الذين يؤثرون على الصوت الانتخابي من النهر الكبير حتى الناقورة، وقيل وقال، وصولاً الى الانتخابات النيابية ونتائجها التي أفرزت كتلة تغييرية جديدة وعودة للقوى السياسية، فغرّد الحريري مباركاً لقوى التغيير والدم الجديد الذي دخل البرلمان.

ولهذه المرحلة ملاحظاتها:

– لا أحد قادر على تعبئة مكان الرئيس الحريري لا في الانتخابات ولا قبلها ولا بعدها.

– مقاطعة سنية في مناطق عدة ممن رفضوا تجاوز الحدث وعنوانه “زعامة علقت عملها السياسي”، علماً أن الحريري كان واضحاً في كلامه بالدعوة الى تعليق المشاركة في الانتخابات ترشيحاً وليس تصويتاً.

– فشل السنيورة في المعركة الانتخابية، وكل جهوده انتهت بايصال مرشح “التقدمي الاشتراكي” النائب فيصل الصايغ. فالسنيورة ليس شخصية شعبية ولا ينجح في مهمات كهذه.

– سقوط حركة السيد بهاء الحريري بعدما تبيّن أن كل أهدافها “التصويب على شقيقه”. سقطت بعدم حصول حملته على مختار واحد.

– تشرذم في الموقف السني، وضياع حول الاستحقاقات.

– تنامي محاولات محلية لجمع السنة باءت بالفشل وكانت انتخابات رئاسة الجمهورية أكبر الدلائل.

– المزيد من الأعباء على دار الفتوى وتحميلها أكثر مما تحتمل.

– فشل المنافقين في السيطرة على الارث الحريري، والمحاولات مستمرة حتى اليوم.

– اتساع رقعة الساعين الى موقع رئاسة الحكومة والى فرض أنفسهم كمرجعية.

– اعتراف واضح من غالبية القوى السياسية بزعامة الحريري.

ويومياً يلاحقه الاعلام، من دون أن يصل الى أي معلومة. ومرت سنة 2022 ويومياً يبحث اللبنانيون عن جواب واحد: هل الحريري سيعود ومتى؟ وتتسع القراءات التي تنصفه.

قدم الحريري فرصة أولى لقوى التغيير باستقالته من الحكومة بعد ثورة “17 تشرين”، وظنّ أنها ثورة حقيقية ستكمل طريقها لتنهي الطبقة السياسية، لكن اتضح بالنسبة الى الحريريين أنها ثورة مصنطعة لم تكمل طريقها الى بعبدا، بل فرحت بحكومة “حزب الله والوطني الحر” التي ترأسها حسان دياب وعادت الى المنازل.

وعلى الرغم من ذلك، وبعد انفجار المرفأ لم يستطع الحريري ضبط اندفاعه للإصلاح فأتى تكليفه لرئاسة الحكومة، وظن أن ما حصل، سواء ثورة “17 تشرين” أو انفجار المرفأ، سيؤدي الى يقظة سياسية لدى القوى، لكن الانفصام كان مسيطراً على أجواء بعبدا والصهر مستمر بأجندته الطائفية، فيما “حزب الله” يواصل معارك ايران في دول أخرى وغير مهتم بنتائج أعماله على لبنان، اما الحلفاء فزادوا من عدد سكاكينهم في ظهر الحريري، الأول زادت نزعته الطائفية بعدما غرق في مستنقع باسيل الطائفي والثاني “كل يوم بشكل”.

اعتذر عن التكليف رافضاً تشكيل حكومة ميشال عون، خصوصاً بعدما رفضت القوى السياسية طرح الحريري الانقاذي بصيغة جديدة لحكومة مصغّرة، ليكمل بعدها مسار تقديم الهدايا لقوى التغيير، بتعليق العمل السياسي وعدم المشاركة في الانتخابات، ولولا هذا القرار لما كانت الكتلة التغييرية في المجلس بهذا العدد ولما كان بعض الصغار ليصلوا إلى المجلس.

فضّل الحريري أن يخرج من اللعبة وألا يكون متفرجاً على مأساة اللبنانيين، ليعطي الفرصة للدم الجديد بالتغيير، وفرصة ليكتشف اللبنانيون حقيقة سياسة الحلفاء، وفرصة للخصوم للخروج من الانفصام والعودة الى لبنان.

لكن “فالج ما تعالج” فالدم الجديد دخل اللعبة السياسية من بابها العريض وبات شريكاً مع السلطة في لعبتها ولم تقدم قوى التغيير أي جديد لمصلحة لبنان، والحلفاء لا يزالون خلف متاريس مصالحهم وتعييناتهم ومواقعهم، والخصوم بارعون في التعطيل ولغة السلاح وتخريب العلاقات مع الخارج.

وها هو لبنان يعيش مرحلة تدمير ما تبقى من مؤسسات وسقوط كيانية الدولة، وينتظر تسوية جديدة على رئاسة الجمهورية. وبات واضحاً أن لا رئيس من دون رضى “حزب الله”. التغييريون زاروا حارة حريك، و”حزب الله” زار بكركي، والتواصل مستمر بين الحزب و”التقدمي” ومن “فيه وبده” لم يحقق أي شيء سوى المزيد من النواب.

فما الذي تغيّر عن تسوية 2016 التي سقطت أقنعتها؟ ولا يتحمل الحريري سوى الجزء الأصغر من المسؤولية في ايصال شخص باركه البطريرك بشارة الراعي ورفع نخبه سمير جعجع ودخل في تسويته كل من شارك في الحكومات المتعاقبة من 2016 حتى 2022.

ها هو لبنان يعجز عن تشكيل الحكومة، واذا شُكلت فتدوير الزوايا أبرز الوسائل. والتعيينات والمحاصصة أبرز المطالب. ماذا تغيّر؟

وما المضحك الا الذين ينتقدون الحريري على أنه قال “صديقي جبران” وهم أنفسهم يريدون اليوم ايصال رئيس للجمهورية كان جبران أكثر من صديق له، فمعروف أن العزيز النائب ميشال معوض خاض الانتخابات مع جبران وكان نائباً في تكتل الصهر. لماذا لم يتم رجمه على هذه الخيارات؟ ولماذا لا ينتقد جعجع على أنه كان صديق جبران بنخب رفعاه في معراب؟ أم أن كل ما هو مسموح للآخرين ممنوع على الحريري؟

غريب أمرهم، كيف ينتقدون سياسته مع “حزب الله”؟ واجههم حتى الدم، وحاورهم وخاصمهم وقاطعهم. كل الأساليب استخدمت مع “حزب الله”. خسر والده على يد الحزب وفي ذروة المواجهة اغتيل رفاقه كالحسن وعيدو وشطح ومقربين شهداء، فهل سقط من آخرين شهداء أمام “حزب الله”؟ هل هناك من وصل حد 7 أيار؟ فحتى حكومة السنيورة ولولا غطاء الحريري الجاذب للمواقف العربية والدولية لما قيل انها واجهت.

لم تكن سياسة الحريري المشكلة ولن تكون، تبقى المعضلة في نفوس الآخرين. يسألون عن انجازاته؟ يكفي أنه أعدم أي محاولة للفتنة بين اللبنانيين، وخصوصاً بين السنة والشيعة. يكفي أنه حمى اللبنانيين وخصوصاً السنة من الارهاب. يكفي أنه حقق أهم انجاز هو مؤتمر “سيدر” الذي تجاوز فيه حجم قيمة المشاريع عن “باريس 1 و2 و3” التي كانت أيام والده رحمه الله.

واليوم، ومع اقتراب ذكرى 14 شباط، يتكرر السؤال: هل يعود الحريري؟ الجواب بسؤال. ولماذا لا يحضر الحريري ذكرى والده وهو لم يغب عن هذه الذكرى طوال 17 عاماً؟

المعطيات الأكيدة يملكها الحريري نفسه، لكن الأكيد أن هذه الذكرى بالنسبة اليه هي القضية.

ولمن اعتبروا أن الحريري أو الحريرية انتهت فان سعد رفيق الحريري لا ينتهي، ومشهدا الضريح وبيت الوسط في 14 شباط يشهدان بصمت. وبعدها استعدوا ولو طالت الأشهر!

شارك المقال