البيطار… أي لغم داس عليه!

أنطوني جعجع

هي ليست المرة الأولى التي تنصاع فيها المنظومة السياسية التي يقودها “حزب الله” بالتنسيق مع ايران، لضعطٍ أو رغبةٍ اميركية، إذ أقدمت قبل اطلاق اللبناني الأميركي محمد العوف، على اطلاق عامر الفاخوري “جلاد معتقل الخيام”، وعلى رسم الحدود البحرية مع اسرائيل وفق الخطوط التي رسمتها واشنطن تحت شعار اما النفط واما القحط.

وما فعلته المنظومة عبر القاضي غسان عويدات، فعلته ايران نفسها عندما أطلقت اللبناني – الأميركي نزار زكا بعد سنوات من الاعتقال الاعتباطي، وما قد تفعله أيضاً في ما يتعلق بمجموعة من رهائن غربيين اعتقلتهم أخيراً في اطار الصراع الذي تخوضه مع المجتمع الغربي وتبتز بهم من يتخذ مواقف عدائية من ممارساتها في المنطقة والعالم.

لكن الخلفية الخفية وراء حرية العوف تكمن في مكان آخر، وتحديداً في القرار الظني الذي يمسك به القاضي طارق البيطار ويتضمن في ما يبدو أسماء بارزة تعتبر فوق المتابعة وفوق المحاسبة وحتى فوق الشبهات.

والواقع أن الاسم الذي ورد في استدعاءات البيطار، وقلب قصر العدل رأساً على عقب، هو المدير العام للأمن العام عباس ابراهيم، الذي يعتبر رجل الأمن الأول في لبنان، ورجل المهمات الصعبة والخاصة التي يقوم بها أو يتوسط فيها خلال جولاته على أميركا أو فرنسا أو سوريا وعلى بعض الدول العربية والغربية.

والواقع أيضاً، أن الرجل ليس رجلاً عادياً يحصر مهامه بشؤون الأمن العام اللبناني وحسب، بل رجل استثنائي يحظى بثقة “حزب الله” المطلقة واحترام العرب والدول الغربية معاً، ويحتفظ من الأسرار بما يمكن أن يزلزل واحدٌ منها قصوراً وأجهزة وأحزاباً وتيارات وأنظمة وأقبية.

ولعل الحافز الذي أخذ التحقيق صوب اللواء ابراهيم، استند على الأرجح الى أن الرجل كان من أوائل الذين أعلنوا وجود أطنان من مادة نيترات الأمونيوم لحظة انفجار العنبر ١٢، مصوباً ما تردد في البداية عن انفجار أسهم نارية.

والواضح أن المحققين انطلقوا في تسميته من شكوك لديهم بأنه ربما يحتفظ بمعلومات أخرى تتعلق بالشبكة التي شحنت المتفجرات، والجهة التي خزنتها ونقلتها واستخدمتها، وتلك التي أحرقتها أو فجرتها بهدف التخلص منها بعد انتفاء مهمتها في سوريا.

وتذهب مصادر غربية بعيداً الى حد القول ان واشنطن نقلت الى الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء آنذاك حسان دياب مخاوف اسرائيل من وجود هذه المتفجرات في مرفأ بيروت واحتمال استخدامها في عمليات عبر الحدود، مطالبة السلطات اللبنانية بالتخلص منها بأي طريقة وبأقصى سرعة قبل أن تتدخل اسرائيل نفسها للتخلص منها.

التحذير الأميركي نقل من قصر بعبدا الى “المالكين” الذين أمروا باحراق العنبر، باعتبار ذلك الوسيلة الأسرع لتحاشي أي ضربة اسرائيلية تسفر عن مجزرة حتمية في منطقة ذات غالبية مسيحية، وتكشف مواقع مماثلة أقيمت في مناطق مدنية اخرى.

وتعتقد المصادر أن من تولى عملية الحرق كان يجهل على الأرجح وجود مواد قابلة للاحتراق داخل العنبر، مما حوّل الأمر من مجرد حريق عادي الى تفجير كارثي وضع “المالكين” في موقع لا يحتمل الاقرار بالذنب ولا تحمل العواقب، ودفعهم الى اتباع السياسة عينها التي اتبعت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي سياسة التضليل والتهديد والترهيب والاغتيال وحشد شبكة قضائية تعمل لتطويق أي مسار يقود الى “النهايات غير السعيدة”.

والواقع أن المنظومة الحاكمة لم تكن تتوقع الاصرار الذي أظهره القاضي البيطار، على المضي بالتحقيق حتى النهاية، متجاهلاً تهديدات وفيق صفا وتحذيرات حسن نصر الله، فوجدت نفسها بين خيارين: اما تحييد الرجل، وهو أمر سيضعها مباشرة في دائرة الاتهام الصارخ، واما وقف التحقيق في مكان ما قبل الوصول الى خاتمة محلية أو قبل الانتقال الى محكمة دولية.

وهنا لا بد من سؤالين أساسيين: لماذا تحرك البيطار فجأة بعد غياب ١٣ شهراً؟ ولماذا استدعى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات المتنحي عن الملف بحكم القرابة مع الوزير المطلوب غازي زعيتر؟ وهل فعل ذلك بتشجيع من الوفد القضائي الفرنسي أو بضغط من الادارة الأميركية، أو أنه انطلق من خلفيات شخصية أو معطيات جديدة وقعت في يده في سياق التحقيق المستمر منذ عامين؟

تقول مصادر تتابع مسار الأحداث ان البيطار ربما أدرك بعد التعرض لوليم نون أن هناك محاولة لاخفاء “آخر صوت شعبي” في الشارع يطالب باستكمال التحقيق بالتوازي مع مسعى سياسي مقابل لتعيين قاض رديف، اضافة الى ضغط أميركي وتحرك قضائي دولي اعتقد أنها تشكل كلها مظلة أمنية وقانونية تسمح له بالعودة الى مهامه في سلام.

لكن المصادر استغربت التعرض للقاضي عويدات، مرجحة أن يكون في الأمر مأخذ شخصي يعود ربما الى الصمت الذي التزمه مدعي عام التمييز حيال التهديد المباشر الذي أطلقه وفيق صفا من قصر العدل.

وأضافت أن رد الفعل العنيف الذي أبداه عويدات قد يكون ترجمة لاستياء هائل من استدعاء يعتبره افتراء وخطوة في غير محلها وخارج الصلاحيات، ويهدف أولاً الى تنصيب نفسه المرجع القضائي الأول في البلاد، وثانياً الى بناء شعبية محلية ودولية على حساب القضاء اللبناني أو محاولة لسحب التحقيق الى الدوائر الدولية.

وتذهب المصادر عينها بعيداً الى حد القول ان ما فعله البيطار في عز صراع رئاسي محموم، أعاد الحياة الى ملف التفجير الكارثي والى الاتهام الموجه الى وزير تيار “المردة” يوسف فنيانوس في خطوة أربكت المرشح سليمان فرنجية وشوّهت صورته، خصوصاً أنه لم يبد أي تعاون مع المحقق العدلي لا بل وفر ما يلزم من الحماية الأمنية والشعبية لوزيره المطلوب.

وأضافت أن فتح الملف، أربك أيضاً “التيار الوطني الحر” ورئيسه جبران باسيل الذي يعرف دور عمه الرئيس ميشال عون في القضية، ويعرف بالتالي أن المواقف الباهتة التي اتخذها بعد التفجير لا تعطيه زخماً شعبياً مسيحياً ينقله الى قصر بعبدا، ولا زخماً دولياً يعطيه فك ارتباط بينه وبين “حزب الله” ويتعامل معه كحيثية مستقلة في القرارات الوطنية الحساسة والحاسمة، تماماً كما فعل بعد اغتيال الحريري وسبحة الاغتيالات الأخرى التي كان اَخرها اغتيال لقمان سليم الذي تردد أنه كان يحاول في ما يحاول تدويل التحقيق في تفجير المرفأ.

وتابعت المصادر أن الرئيس نبيه بري ليس بعيداً من هذا المأزق، مشيرة الى أنه كان في مقدم المرشحين لتلقي عقوبات أميركية قاسية رداً على دوره السلبي في مسار التحقيق والضعط الذي مارسه لابقاء نائبيه علي حسن خليل وغازي زعيتر خارج المساءلة، لا بل لحمل البيطار على التنحية طوعاً أو قسراً.

وفي غياب أي تعليقات مباشرة من “حزب الله” الذي يراقب من بعيد، خرج اللواء ابراهيم عن صمته، ليقف على منبر بكركي ملتزماً قرارات عويدات، وموجهاً الى البيطار من دون أن يسميه، ما يشبه النصيحة – التحذير، أي لا تحولوا بيروت “من أم الشرائع الى أم الشوارع”، تاركاً للرأي العام والمراقبين فك شيفرة ما يعنيه ورموزه وخلفياته.

وفي قراءة سريعة لكل ما تقدم، يمكن الوصول الى انطباع بديهي، وهو أن البيطار لم يرتكب خطأ قانونياً تسلح به للعودة الى مكتبه، بل داس على لغم طاولت شظاياه عدداً من الأسماء الدسمة التي يمكن أن تصل الى أبواب قصور يتربع فيها حكام وقادة يعتبرون أنفسهم فوق القوانين وفوق الشبهات، وفتح جبهة داخلية تهدف الى اكمال ما لم يستطعه ميشال عون أي التخلص من حيثيات “مزعجة” تبدأ بالقاضي البيطار وتعرج على القاضي سهيل عبود والحاكم رياض سلامة وانتهاء بالعماد جوزيف عون.

انه الصراع الأخير بين ديوك القضاء اللبناني وتحديداً بين فريق يملك الحقيقة ولا يملك القوة وفريق يملك القوة وينقض على الحقيقة، أو في معنى اَخر، الصراع القائم بين ايران والغرب اما سعياً الى تبادل الخدمات واما سباقاً نحو تبادل الضربات.

فهل ينتهي الأمر الى قرار فرنسي يقوم على تنحية البيطار في مقابل اطلاق ٥ فرنسيين محتجزين في طهران؟ وهل ينتهي الى قرار أميركي يقوم على اطلاق العوف في مقابل رئيس يحظى برضى “حزب الله” أو يكون من اختياره؟

المسألة مسألة وقت… فلننتظر.

شارك المقال