تشابهات بين “إسرائيل بن غفير” و”لبنان الإيراني”

عبدالوهاب بدرخان

التطوّرات في إسرائيل، خصوصاً بتحليل مجرياتها وتفاصيلها وما يقال فيها وعنها، تقريراً وتعليقاً، تُظهر تشابهات مع لبنان في محنته الإيرانية (وحتى مع إيران في طبيعة نظامها)، كما تستدعي مقارنات بين وضعَين يُفترض ألّا يكونا متقاربين. لكن السياسة هي عقلية قبل أي شيء آخر، وعندما تمعن في التخلف والعفن هنا أو هناك لا تعود قادرة على تغطية عيوبها وبشاعتها، أو معالجة مفاعيلها السرطانية. وإذ وفّر لبنان لـ “أصدقائه” أو الراغبين في مساعدته الكثير من المؤشرات العلنية الموثّقة الى اندفاعه الى الانتحار والزوال كدولة وكيان وهوية، فإن “أفضل أصدقاء” أو حلفاء إسرائيل باتوا يخافون عليها من نفسها، أما خصومها وأعداؤها فيتشاركون مع بعض من مؤرّخيها وسياسييها في تداول نبوءات زوالها. الفارق أن “أصدقاء” لبنان فرّطوا به ولم يحرصوا عليه حرصَ أصدقاء إسرائيل عليها.

أقل ما قيل وما لا يزال يُقال إن “لبنان الذي نعرفه” انتهى ولن يعود، وما سيبقى منه هو موقعه في الجغرافيا. قبل الأزمة المستمرّة، وفي سياقها، قيل إنه “كيانٌ مصطنع” وجرى التذكير بأنه كان جزءاً من سوريا (المقطّعة حالياً مناطق نفوذ غير سورية، والمرشحّة لأن تصبح بدورها أجزاء، فقط لأن نظامها الأسدي يعتقد أنه وُجد ليبقى حتى لو أحرق البلد أو باعه لمن يحميه من شعبه). وفي الأزمة الراهنة قيل أيضاً داخل إسرائيل وخارجها في الغرب إنها “تتغيّر” وإن هذه “ليست إسرائيل التي نعرفها”، هذا مع افتراض أنهم يعرفونها، أو كانوا مستعدّين للاعتراف بحقيقتها من دون أن يدينوا أنفسهم ويكشفوا تواطؤهم مع جرائمها لتحصينها كـ “كيان مصطنع” حقّاً، لكن وظيفته الاستعمارية والتخريبية في المنطقة برّرت دائماً حمايته وتلميع صورته. الفارق أن القوى الغربية كانت تعرف جيداً هذين “الكيانَين”، بل كانت تعرف أن لبنان أقرب الى القيم العالمية لكنها تركته يسقط، فيما اهتمّت بتحصين دولة مارقة كإسرائيل أقرب الى قيم عصور بائدة.

لعل المقارنة تبدأ مما يُسمّى “الديموقراطية” التي اتخذها الغرب الأميركي – الأوروبي شعاراً دعائياً يصلح لتبرير دعمه الأعمى لدولة لا تزال تسرق أراضي فلسطينية لتضيفها الى الأرض التي سبق أن اغتصبتها، دولة لا تزال تحتلّ/ بل تريد ادامة احتلال مناطق مأهولة بسكانها الفلسطينيين، ودولة تمارس المجازر الإرهابية والابادة البطيئة علّ هؤلاء السكان يرتهبون ويرحلون من تلقائهم. فأين “الديموقراطية” التي يستهجن الغرب ويهود الغرب أن تكون زمرة المتطرّفين الإسرائيليين في صدد تشويهها والتفريط بها؟ الأصحّ أن هذه “الديموقراطية” كانت “كذبة العصر” وكان يجب أن يقفز المتديّنون والقوميون المتطرّفون الى سدّة الحكم كي يرسموا نهايتها. على المقلب اللبناني كان “ائتلاف الطوائف” صيغ في “ميثاق وطني” وشكّل خصوصيةً شبه ديموقراطية لطالما وُصفت بـ “الحضارية” لأنها وفّرت تعايشاً وطنياً قصيراً زمنياً قبل أن يبدأ الصراع حولها والعبث بها من جانب العرب والغرب وإسرائيل نفسها. أساساً لم يكن للبنان واللبنانيين/ ولن يكون لهم خيار آخر غير أن يتمسّكوا بتجربة التعايش هذه وأن يطوّروها في صيغة محصّنة بالدستور والقوانين الأعراف، لكن زمرة التطرف التي اختُصرت بـ “حزب إيران/ حزب الله” شاءت هنا أيضاً أن تنهي الاعتدال اللبناني لتصنع من البلد بؤرة ممقوتة لبنانياً وعربياً ومنبوذة دولياً.

في إسرائيل يُتّهم المتطرّفون بأنهم يخططون لـ “تغيير النظام”، وهم لا يخفون أن لديهم أجندة لا تقتصر على اضطهاد منظّم للفلسطينيين لتهجيرهم وعلى أهداف توسيع خريطة الدولة العبرية وحسب، بل انهم يرمون الى اخضاع إسرائيل لتفسيرهم الأصولي للصهيونية. وفي خضم النقاش المحموم اكتشفت إسرائيل وحلفاؤها في الخارج أنها “ديموقراطية” في حاجة الى “دستور”، لكن الوضع المأزوم حالياً ليس المناخ الملائم للبحث في صوغ دستور، بعدما وجد المتطرّفون هذه الثغرة للنفاذ منها الى “اصلاح القضاء” بتهميشه وتعطيل صلاحيته. ربما تفيد الخبرة الإيرانية والأسدية في هذا المجال، خصوصاً أنها جُرّبت وطُبّقت وأقامت واقعاً جديداً في لبنان لا ضرورة فيه لأي “اصلاح”، إذ يوجد دستور وقوانين لكنها معطّلة لمصلحة قوة الهيمنة والاحتلال، ويوجد قضاء لكن جرى ترهيبه ثم تدجينه وإخضاعه، ويوجد ما كان يُسمّى دولة لكنها أصبحت هيكلاً عظمياً متهالكاً، ويوجد “نظام” حدّد الدستور قيمُه لكنه مرشّح لـ”التغيير” وفقاً لشروط “حزب إيران/ حزب الله” الذي بات يتصرّف على أن ثمة نظامين في البلد وأن كفة “نظامه” هي الراجحة وإنْ لم يُشرعن بعد.

أكثر التشابهات وضوحاً أن ممارسات المتطرفين أخرجت المجتمع/ والشارع عن صمته وسكينته، لكن تحالف المافيا والميليشيا استطاع اجهاض انتفاضته في لبنان مهدّداً بـ “الحرب الأهلية”، وإذ تتوافر في إسرائيل عناصر “الحرب الأهلية” (أحزاب “الصهيونية الدينية” و”قوّة إسرائيل” و”شاس” حصدت نسبة كبيرة من تصويت الجيش) فإن الدولة العميقة لا تزال قادرة على اجهاض أي صدام داخلي وتعتبره “خطّاً أحمر”، غير أن هذا الخط معرّضٌ لاختبار صعب في حال فشل المفاوضات بين الحكومة والمعارضة وتيقّن المتطرّفين بأنهم لن يتمكنوا من فرض أجندتهم. وفي هذا السياق، كان مفهوماً ومتوقعاً أن يتهرّب “حزب إيران” من أي مسؤولية ليضع “انتفاضة 17 تشرين” في اطار “مؤامرة أميركية” عليه، وأن يتهم نشطاءها بأنهم عملاء للسفارات، لكن شاءت السخرية أن يذهب أقطاب الحكومة الإسرائيلية الى اتهام الولايات المتحدة بتمويل المتظاهرين وتحريضهم عليها. وقبل ذلك، كان الرئيس الإيراني وقادة “الحرس الثوري” عزوا الاحتجاجات الشعبية طوال شهور (بعد مقتل الشابة مهسا أميني) الى تدخل وتحريض من الغرب.

تلك مجرد عيّنات من تحوّلات أنجزت في لبنان الكثير من أهدافها التخريبية وتنتظر حالياً قطف الثمار الأخيرة ليصبح البلد تابعاً نهائياً لإيران، بموجب التطبيع مع العرب أو من دونه. أما إسرائيل التي صنعت سجلها الأسود على مدى عقود فلم تكن بحاجة الى صعود المتطرّفين إلا للاستزادة من الجرائم.

شارك المقال