الحوار مع “حزب إيران” يعني الدخول الى حقل ألغام

عبدالوهاب بدرخان

النقاش الذي تثيره أسئلة المبعوث الرئاسي الفرنسي مع الأطراف اللبنانية كان يمكن أن يُخاض بين هذه الأطراف في أي حوار داخلي، علماً بأنه لم يعد في الإمكان الحديث عن “حوار وطني”. وكما أن جان ايف لودريان لن يتوصّل الى خلاصة مكثّفة يمكن اختزالها بـ”اسم” المرشح التوافقي الصالح، فإن الحوار الداخلي، لو حصل، ما كان ليفضي بدوره الى تلك النتيجة. هذا يسمّى “الاستعصاء”، وفي حالٍ كهذه تُطرح بدائل مثل الانقلاب العسكري – وهو غير وارد ولا متاح في لبنان، أو اسقاط الحكومة لاستبدالها – لكن الحكومة الحالية ساقطة عملياً، أو الذهاب الى انتخابات تشريعية مبكّرة كخيار معقول مع افتراض أن الناخبين سيستخلصون العبر ليغيّروا الغالبية ويسهّلوا الخروج من الجمود – لكن عورات القانون الحالي للانتخاب انكشفت تماماً ولا يُتوقّع منه أي تغيير واضح وحاسم.

جاء طرح فكرة الانتخابات المبكّرة متأخراً، في الوقت الخطأ ومن الجهة الخطأ، ولأهداف مكشوفة، بعد تيقّن “الثنائي الشيعي” لصاحبه “حزب إيران/ حزب الله” من أنه لن يتمكّن من ترئيس مرشّحه الوحيد. فهذه هي النتيجة التي انتهت اليها جلسة 14 حزيران، لكن “الثنائي” راح يروّج بأنها انتصار له، أي أنه لم يقتنع بالحقيقة ولا شيء يمكن أن يعيده الى الواقع. سبق له أن رفض الاعتراف بنتيجة انتخابات 2009 مؤكّداً بذلك أن ما تُسمّى ديموقراطية ليست في قاموسه وأن تمثيله السياسي في البرلمان لا يعني له شيئاً آخر غير تغطية سلاحه غير الشرعي وادّعاء أنه يمارس “اللعبة الديموقراطية” اسوةً بالأطراف الأخرى، مع فارق – “بسيط”! – أن لديه ترسانة صواريخ وأسلحة يضعها في المعادلة السياسية، وفارق – “أبسط”! – أنه يمارس الاغتيالات والترهيب لتغيير مسار أي عملية سياسية تخالف أهدافه واملاءاته.

هذا هو الوضع الحقيقي للبنان، بتسمية الأشياء بأسمائها، ولن يوافق هذا “الحزب/ الميليشيا” على أي معادلة جديدة سواء جاءت من الداخل أو من الخارج، ما لم تلبِّ شروطه وما لم يكن هو نفسه صانعها. غير أنه يواجه معطيات داخلية تعاكس حساباته، ليس بالتركيبة المشرذمة للمجلس النيابي وحسب، بل خصوصاً بالوضع الشعبي – بما في ذلك جمهوره الذي يدجّنه بالترهيب – الذي يعاني من انعكاسات الأزمة الاقتصادية والمالية. وقد غدا “الحزب” المتهم الأول شعبياً بالاستفادة من هذه الأزمة، وبعرقلة أي إصلاحات وخطط للتعافي، إذ يراها مرحلة انتقالية من “دولته”/ “دويلته” التي أقامها خدمةً لمشروعه الجهنمي الى الدولة/ دولة جميع اللبنانيين، التي إذا استعيدت فإن خسارته ستكون عندئذ مضاعفة ومدوية. لكن غطرسة القوة لا تخلو من الغباء، فـ “الحزب” هذا يعتقد أنه يستطيع استمالة بعض الخارج – فرنسا مثلاً – الى شروطه أو حتى فرضها، غير أن فرنسا المستعدة (سابقاً؟) لقبول مرشّح “حزب إيران” كانت تشترط في المقابل أن يكون رئيس الحكومة المقبل من خارج زبائن “الحزب” وملتزماً إصلاحات صندوق النقد الدولي.

يجد لودريان أمامه وضعاً فقدت فيه فرنسا ذريعة “الواقعية” التي كانت تتسلّح بها سطحياً لتمرير بعض المصالح الخاصة، لكنه يجد نفسه في “برج بابل” تكثر فيه الأصوات ويعلوها صوت “الحزب” المسلّح – لأنه مسلّح، وقد أضيفت اليها أصوات ديماغوجية وغوغائية مَن يدّعون أنهم مع “لبنان الجديد” ويخدمون عملياً “حزب” السلاح. لكن ربما لا تزال لدى فرنسا القدرة على التوسّط بين الفرقاء، بعدما سقطت هذه الصفة عن أي وسطاء محليين، وإنْ كانت باريس تواجه حذراً مسيحياً بات يصعب ترميمه وشكوكاً عامة بات متعذّراً تبديدها. وبين الأمر الواقع الذي يمثله “حزب إيران” بسلاحه والواقع الحقيقي الذي يمثّل أنصار استعادة الدولة، لا أحد يحسد المبعوث الفرنسي على المهمة التي يتصدّى لها. فهو لا يعرف أي ثوابت يمكن أن يستند اليها، وقد يتبيّن له أن ما يعتبره أساساً – وهو انهاء الفراغ الرئاسي – ليس أساسياً عند غالبية من يلتقيهم، كلٌّ لأسبابه. وقد يتبيّن كذلك أن تطبيق ما لم يُطبّق حتى الآن من “اتفاق الطائف” لم يعد من التقاطعات “الوطنية” التي يمكن البناء عليها.

ما سقط في جلسة 14 حزيران ليس فقط قدرة “حزب إيران” على فرض مرشّحه، بل أيضاً قدرة هذا “الحزب” على تغيير هوية لبنان عبر صفقة تدعمها إيران مع أي طرف خارجي آخر، سواء كان فرنسا استناداً الى استثمارات ومصالح مفترضة، أو كان السعودية (ومصر وقطر) اعتماداً على التطبيع الاقليمي الجاري. لكن يُخشى أن يكون سقط أيضاً امكان المجيء برئيس للجمهورية قادر على استعادة الدولة وشرعيتها وقرارها، لأن البحث عن “تسويات” يهبط بمستوى المواصفات إرضاءً لـ “حزب السلاح”، فأي رئيس – تسوية سيكون ضعيفاً ولن يتمكّن من إعادة التوازن الوطني لأن سعيه الى تطوير التوافقات لتقوية علاقة الرئاسة مع جميع المكوّنات سيصطدم دائماً بالانقسامات التي يغذّيها “الحزب”، ولأن التزامه الخطوط العريضة للسياسات العربية سيصطدم حتماً بعراقيل الأجندة الايرانية. فحتى المراهنة على “اتفاق” أو “تفاهم” نووي يهدّئ التوتّر بين إيران والقوى الدولية لن تسفر عن مقاربة عقلانية للشأن اللبناني، طالما أن “حزب إيران” متمسّك بهيمنته ويريد تثبيتها ودسترتها.

ما سيستنتجه لودريان وسواه أن هذا “الحزب” سيعطّل أي تصويت لانتخاب رئيس جديد، ما لم يكن هذا الرئيس “زلمته”. وبالتالي فإنه مستعدّ لإدامة الفراغ الى ما لا نهاية، الى أن يتعب الآخرون جميعاً ويتكيّفوا مع شروطه، بـ “الحوار” أو بدونه. وإذا كان “الحوار” أهون الخيارات فإن الذهاب اليه باحتمالات متساوية للنجاح أو الفشل سيزيد المخاطر: للمرة الأولى تظهر نيات الفدرلة/ التقسيم على هذا النحو الفجّ، وتظهر المطالبة باللامركزية الادارية باعتبارها صيغة لتقاسم الدولة وتفتيت المجتمع. لذلك يبدو “الحوار” الذي يدعو اليه “الحزب”، وقد تتبناه مهمة لودريان ولو بحسن نيّة، أقرب الى حقل ألغام منه الى مبادرة لحل الأزمة. فالمعطيات المحلية التي فرضتها إيران و”حزبها” على الأرض، ولم تفرضها القوى الخارجية، هي التي ستتحكّم بالحوار ووجهته وأهدافه والمخرجات التي يمكن توقّعها منه.

شارك المقال