نهاية صفقة الحبوب الأوكرانية؟

حسناء بو حرفوش

فشلت موسكو في تحويل صفقة الحبوب لصالحها، لكن تركيا لن تتردد في استخدام نفوذها للتأثير على الرئيس الروسي، حسب مقال في موقع “مركز كارنيغي للشرق الأوسط”. ووفقاً للمقال، “ذهبت روسيا إلى أبعد حد في تهديدها الطويل الأمد في ما يتعلق بصفقة الحبوب الأوكرانية، مع تعليق الصفقة لمدة أسبوعين على الأقل حتى موعد انعقاد القمة الروسية – الأفريقية المرتقبة في سانت بطرسبرغ في 27 – 28 تموز، وربما حتى يجتمع الرئيسان الروسي والتركي في شهر آب. ويبدو أن الأسواق غير مقتنعة بأن الانقطاع عن الصفقة سيكون طويلاً، خصوصاً وأن موسكو هددت مرات عديدة بالانسحاب من الصفقة، لذلك لم يعد أحد يأخذها على محمل الجد. وعلى أي حال، يعتمد الكرملين بصورة كبيرة على شركائه للتخلي عن الصفقة.

ووقعت صفقة الحبوب بين روسيا وأوكرانيا قبل عام في اسطنبول بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا بهدف نقل الحبوب الأوكرانية التي تشتد الحاجة إليها في السوق العالمية ووقف ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وبموجب الجزء الأول من الاتفاقية، وعدت موسكو بعدم مهاجمة سفن الشحن التي تحمل الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، وبدورها تعهدت تركيا والأمم المتحدة بفحص شحنات السفن. كما أعفى الجزء الثاني من الصفقة الصادرات الزراعية والأسمدة الروسية من العقوبات الأميركية والأوروبية.

منذ ذلك الحين، نقل حوالي 32 مليون طن من الحبوب بقيمة 8 – 9 مليارات دولار من أوكرانيا إلى دول من بينها الصين وإسبانيا وتركيا. وأدت الصفقة الى انخفاض أسعار الغذاء العالمية بنسبة 11.6%، وفقاً لمؤشر أسعار الغذاء التابع للأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، على المستوى المحلي، حالت الصفقة دون ارتفاع الأسعار في أوكرانيا عدا عن توفيرها مصدراً رئيساً لإيرادات العملة الصعبة. وفي غضون ستة أسابيع من التوصل إلى الاتفاقية، وتحديداً مع إطلاق أوكرانيا هجومها المضاد الناجح في أيلول 2022، بدأ الكرملين يشتكي من عدم التمسك بشروط الصفقة. واعترضت روسيا رسمياً على عدم وصول الحبوب إلى أفقر البلدان، على الرغم من أن وجهات الصادرات لم تكن أبداً جزءاً من الصفقة. وفي الحقيقة، كانت أولوية الكرملين إزالة الحواجز أمام تصدير الحبوب والأسمدة الروسية. ومع ذلك، على الرغم من تقديم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إعفاءات من العقوبات للمصدرين الزراعيين الروس، ترددت الشركات الغربية في العودة إلى العمل كالمعتاد مع نظيراتها الروسية.

ويعود ذلك الى أسباب عدة، بما فيها الصعوبات في إجراء المعاملات المالية وزيادة التكاليف وخطر فرض عقوبات جديدة. ويرتبط معظم منتجي الحبوب والأسمدة الروس الرئيسيين بطريقة ما بالدولة أو تعرض البعض منهم لعقوبات. وإذا كانت الشركات الروسية والأنظمة المالية تعتبر الشركات الروسية مصدراً غير موثوق، فلا يمكن للأمم المتحدة فعل شيء حيال ذلك.

كما أن روسيا غير راضية عن عدم تلبية مطالبتها بإعادة ربط البنك الزراعي الروسي المملوك للدولة بنظام سويفت الدولي للمدفوعات. وبدلاً من ذلك، اقترحت الأمم المتحدة حلاً وسطاً: ربط شركة تابعة للبنك بالنظام.

وعلى الرغم من هذه العقبات، تمكنت روسيا من توفير 60 مليون طن من الحبوب للأسواق الخارجية في هذا العام الزراعي (تموز 2022 – حزيران 2023) وكسبت أكثر من 41 مليار دولار من ذلك. وليست التوقعات الخاصة بالمحصول الجديد وعائدات التصدير منه أقل تفاؤلاً: لا يزال لدى البلاد مخزون قياسي من الحبوب كما تكيّف المصدرون مع القيود. وكذلك تصدّر الحبوب بنشاط من الأراضي التي ضمتها روسيا من أوكرانيا. وفي أعقاب تهديدات روسيا الأولية بالانسحاب من الصفقة في أيلول الماضي، علقت الصفقة لفترة وجيزة، لكنها أعيدت إلى مسارها بعد يومين فقط ومكالمة هاتفية واحدة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين. وتزامن تمديد الاتفاقية مع زيارة الزعيم الصيني شي جين بينغ لروسيا، بينما تزامن تمديد آخر في أيار مع الانتخابات التركية التي فاز فيها أردوغان. واستخف الكرملين من خلال موافقته على صفقة الحبوب، بمدى تنامي اعتماد روسيا على الصين وتركيا. وباعتبارها المتلقي الرئيس للحبوب المصدرة بموجب الاتفاقية، أدرجت الصين الصفقة كبند منفصل في خطتها للسلام لأوكرانيا. ولا تريد موسكو إفساد العلاقات مع شريك رئيس أصبح أكبر مشترٍ للهيدروكربونات الروسية وأكبر بائع للسلع الخاضعة للعقوبات إلى السوق الروسية.

وارتفعت التجارة مع تركيا بصورة كبيرة بحيث تضاعفت الصادرات التركية إلى روسيا في النصف الأول من العام على أساس سنوي لتصل إلى ما يقرب من 5 مليارات دولار، في حين زودت روسيا تركيا ببضائع بقيمة 27.7 مليار دولار. بالنسبة الى موسكو، لا تمثل أنقرة مركزاً لوجيستياً مهماً فحسب، ولكنها أيضاً “واحدة من الدول القليلة التي تحافظ على الحوار على مستوى عالٍ”، كما اعترف الكرملين مؤخراً. ويبقى وجود هذه القناة مهماً للغاية لدرجة أن موسكو غضت الطرف بصورة فاعلة عن زيادة التعاون بين كييف وأنقرة في إنتاج المسيرات وغيرها من المبادرات الموالية لأوكرانيا من القيادة التركية.

وكان بوتين قد وعد بأنه في حال فشلت صفقة الحبوب، ستوفر موسكو الحبوب مجاناً للدول الأفريقية التي تحتاج إليها. كان يشير على الأرجح، إلى الكميات التي تتلقاها أفريقيا في إطار برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة: حوالي مليون طن. وبالنظر إلى الحصاد القياسي والصادرات، يعد هذا مبلغاً صغيراً بالنسبة الى روسيا. ونظراً الى الاستجابة الهادئة إزاء تقلب أسعار القمح، يخيل أن السوق لا يعتقد حتى الآن أن الحبوب الأوكرانية ستبقى عالقة داخل البلاد. كما لم تنعكس تحذيرات السلطات الروسية من أن شمال غرب البحر الأسود بات منطقة خطرة مؤقتاً مجدداً، على الأسعار العالمية.

وعلى أي حال، كانت أوكرانيا تستعد لإيقاف الصفقة وتواصلت بصورة مستقلة مع شركات النقل والتأمين وأنشأت صندوق تأمين خاص لهذا الغرض تبلغ قيمته حوالي 547 مليون دولار. ومع ذلك، سترتفع الأسعار عالمياً في حال لم تعد روسيا إلى الصفقة في المستقبل القريب بحيث تبقى إحدى القضايا الرئيسة المعلقة هي سلامة البنية التحتية للموانئ الأوكرانية. وكانت روسيا قد شنت قبل عام وبعد يوم من توقيع الصفقة في اسطنبول، هجوماً صاروخياً استهدف ميناء أوديسا. وحيث أنه من غير المرجح أن تتقدم موسكو في الهجمات على ناقلات الحبوب في الوقت الحالي، قد تبدأ باعتبار الموانئ الأوكرانية أهدافاً مشروعة.

أخيراً، يبدو أن روسيا لم تتمكن من قلب صفقة الحبوب لمصلحتها، بعد أن استهانت بتغير ميزان القوى. رأى بوتين في البداية أن الأمر يمنح روسيا نفوذاً إضافياً على أوكرانيا والغرب، لكن عوضاً عن ذلك أصبحت موسكو شريكاً رسمياً بحتاً: لا يغفل أحد عن أخذ بوتين في الاعتبار نظراً الى صعوبة التنبؤ بقراراته، لكن تهديداته لا تؤخذ على محمل الجد. ويتوقع أن يستثمر أردوغان تأثيره على روسيا خلال لقاء مع بوتين الشهر المقبل لإقناعه بالعودة إلى تنفيذ صفقة الحبوب… هذا إن لم يسبقه قادة الدول الأفريقية إلى الطاولة!”.

شارك المقال