التحقيق بتفجير بيروت المزلزل تائه في أروقة “قصر العدل”

زياد سامي عيتاني

تحل الذكرى الفاجعة الثالثة لجريمة العصر المزلزلة، المتمثلة في تفجير بيروت المأساوي بآلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم، الذي دمر مرفأها وثلث مناطقها المجاورة له، وأودى بآلاف الضحايا، ووصف بأنه واحد من أكبر الانفجارات غير النووية في الذاكرة الحديثة، ومع ذلك لم يحرّك العالم ساكناً لكشف ملابساته، ما يعمّق الجراح النازفة ويزيدها آلاماً، اذ أن اللبنانيين وتحديداً أهالي الضحايا والمتضررون يشعرون بخيبة أمل كبيرة، بعد تمييع التحقيق وتضليله، حتى بات أثراً منسياً يغطيه غبار الاهمال وإغفال المتعمدين في أروقة قصر العدل.

وفي هذه الذكرى الأليمة التي تدمي القلوب، نعيد نشر تحريف وإعطاب الطغمة السياسية المجرمة لمسار التحقيقات القضائية، إلى أن تمكنت من تعطيلها وتحويلها إلى سراب.

في 8 آب من العام 2020، أي بعد أربعة أيام من الزلزال المدمر الذي ضرب العاصمة، تظاهر آلاف اللبنانيين ضد المسؤولين السياسيين، بعدما حمّلوهم مسؤولية المأساة. وشهدت التظاهرات مواجهات عنيفة بين محتجين غاضبين والقوى الأمنية التي استخدمت الغاز المسيل للدموع بكثافة والرصاص المطاطي، وأعلن عدد من الوزراء تباعاً إستقالاتهم، إلى أن أعلن رئيس الحكومة حينها حسان دياب في 10 آب إستقالة حكومته.

في اليوم نفسه، إدعى المحقق العدلي في قضية الانفجار فادي صوّان على دياب و3 وزراء سابقين بتهمة “الاهمال والتقصير والتسبب بوفاة” وجرح مئات الأشخاص، ولكن على وقع ضغوط سياسية منددة بالإدعاء على مسؤولين، تمت تنحية صوان في 18 شباط 2021، وعُيّن طارق البيطار خلفاً له.

في الثاني من تموز، أعلن المحقق العدلي الجديد عزمه على إستجواب دياب، تزامناً مع إطلاقه مسار الادعاء على عدد من الوزراء السابقين وعلى مسؤولين أمنيين وعسكريين، وامتنع البرلمان السابق عن رفع الحصانة عن نواب شغلوا مناصب وزارية، ورفضت وزارة الداخلية منحه إذناً لاستجواب قادة أمنيين، كما رفضت قوى الأمن تنفيذ مذكرات توقيف أصدرها.

ومن يومها زجّ التحقيق في متاهات السياسة ثم في فوضى قضائية، بعدما تسببت عشرات الدعاوى التي تقدم بها مسؤولون مُدّعى عليهم، بمحاصرة عمل المحقق العدلي وشله.

وبلغت ذروة التدخل السياسي في 11 تشرين الأول 2021، عندما ندد الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله، بما وصفه بـ”استنسابية” المحقق العدلي، مطالباً بقاضٍ “صادق وشفاف” لاستكمال التحقيق في القضية.

وجراء التدخلات السياسية السافرة في عمل القضاء، علّق التحقيق في الانفجار 4 مرات بسبب دعاوى كف يد قدّمت ضد المحقق العدلي، آخرها في 23 كانون الأول 2021.

في ضوء ذلك، دخلت قضية مرفأ بيروت فصلاً قضائياً جديداً، بعد إحتدام الصراع القضائي بين مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات والمحقق البيطار، الذي قرر إخلاء سبيل 5 موقوفين من أصل 17 منذ الانفجار، ومنعهم من السفر، بينهم عامل سوري ومسؤولان سابقان في المرفأ، كما قرر الادعاء على 8 أشخاص جدد بينهم القاضي عويدات، وحدد مواعيد لاستجواب 13 شخصاً مدعى عليهم.

وفي اليوم التالي، أعلن النائب العام التمييزي رفض قرارات البيطار كلها، وادعى عليه “على خلفية التمرد على القضاء واغتصاب السلطة”، وأصدر منع سفر بحقه. كما قرر إطلاق سراح جميع الموقوفين في القضية. ودخل التحقيق بذلك منعطفاً جديداً بفعل معركة قضائية غير مسبوقة، تعطل من جرائها عمل المحقق العدلي.

وكان الخلاف نشب نتيجة إدعاء البيطار على عويدات في ملف تفجير المرفأ وإستدعائه إلى جلسة استجواب، فرد الأخير بإطلاق كل الموقوفين وبرفع دعوى مضادة على البيطار بتهمة اغتصاب السلطة، وعدم صلاحيته في رفع دعاوى أو تحديد جلسات استجواب أو ممارسة عمله.

إلا أن البيطار أعلن في 23 كانون الثاني 2023، بصورة مفاجئة، إستئناف تحقيقاته، بعد 13 شهراً من تعليقها، جراء دعاوى رفعها ضده تباعاً عدد من المدعى عليهم.

وفي 6 شباط الماضي، أعلن البيطار إرجاء كل جلسات إستجواب المدعى عليهم والتي كان قد حددها إثر إعلانه استئناف التحقيق، وأكد أنه “قرر تأجيل كل جلسات الاستجواب المحددة في شباط، كون النيابة العامة التمييزية قررت عدم إعترافها بمذكراته وباستئناف التحقيقات”. وأوضح أن “التحقيق العدلي يجب أن ترافقه النيابة العامة التمييزية، ويجدر أن يكون هناك تعاون بينهما”. وعكس موقف البيطار نوعاً من التهدئة، بعدما أثارت قراراته الأخيرة مواجهة غير مسبوقة داخل الجسم القضائي، عكست حجم الضغوط السياسية، التي لطالما أخّرت مسار العدالة منذ انفجار المرفأ في صيف 2020.

وفسرت أوساط قانونية تراجع البيطار بأنه “ناتج عن سببين، الأول خوفه من تلويح عويدات بإصدار مذكرة توقيف بحقه، والثاني سقوط رهانه بالانقلاب على النيابة العامة، لا سيما أنه بات واضحاً أمامه منذ اللحظة الأولى أن الضابطة العدلية لم تتمرد على عويدات، كما كان يعتقد، في حين أن أياً من الأجهزة الأمنية لم يبدِ استعداداً لتنفيذ إشاراته”.

ورأت الأوساط نفسها أن “خطوة البيطار بتأجيل الجلسات مقابل خطوة عويدات عدم المضي في قرار إصدار مذكرة توقيف بحقه، وأيضاً تأخير القاضي سهيل عبود إنعقاد مجلس القضاء الأعلى، وبالتالي عدم طرح قضية عزل البيطار أو إحالته على هيئة التأديب القضائية، أسهمت في تهدئة التوتر”.

ومنذ ذلك الحين، أخفق التحقيق وأخفي في أروقة “قصر العدل”، بغطاء من الطغمة السياسية الحاكمة.

شارك المقال