طرابلس مدينة من عبق التاريخ… يخنقها إهمال الحاضر

إسراء ديب
إسراء ديب

يستبشر الطرابلسيّون خيراً بالموسم الصيفي الحالي، فيُحاولون قدر المستطاع التمسّك بكلّ المقوّمات السياحية منها أو التاريخية لاظهارها لكلّ سائح قرّر زيارتها سواء أكان سائحاً داخلياً أم خارجيًا، فهذه المدينة التي يُطلق عليها لقب “طرابلس الشام” أو “طرابلس الشرق”، تحمل تاريخاً متنوّعاً سجّلها كعاصمة للاتحاد الفديرالي الفينيقي سنة 300 قبل الميلاد، بحيث اعتبرت بعض المصادر التاريخية أنّها “أوّل اتّحادٍ أممي في التاريخ”، ما أهّلها لتكون حاضنة لآثار تمتدّ لجذور تاريخية وعهود قديمة تركت في أحيائها وزواياها بصمة لا تُنسى كالعهد الروماني، البيزنطي، الأموي، الفاطمي، السلوقي، المملوكي، والعثماني وصولاً إلى تاريخها الحديث.

وحدهم سياح الخارج يُدركون تماماً قيمة هذه المدينة تاريخياً فيصوّرون كلّ زاوية أو صخرة صامدة فيها حتّى بعد توالي عهود الاهمال والظلام عليها، وكان تطبيق “تيك توك” من أكثر التطبيقات إنصافاً للمدينة وبعده “انستغرام” حيث ينشر متابعون مقاطع مصوّرة تُثبت أنّ الخريطة السياحية لا سيما السياحة التاريخية وحتّى الدينية منها تمرّ من طرابلس، إذْ يحثّ الكثير منهم على أهمّية وضع المدينة على لائحة جولاتهم اليومية والتي لا يكفي الزائر فيها يوماً فقط. كذلك يُقدّر بعض السفراء أهمّية هذه المدينة لا سيما سفير اليابان السابق لدى لبنان تاكي شي أوبوكو، الذي غرّد منذ أيّام على صفحته عبر “تويتر” كاتباً: “هذا هو المنظر الرائع لطرابلس من قبالة ساحل البترون. خلال رحلة بحرية قمت بها على متن قارب، كنت سعيداً جداً برؤية عروس البحر المتوسط. هذه المدينة لديها الكثير من الإمكانات التي ستؤدّي إلى مزيد من الإنماء…”.

في الواقع، لم يرصد الطرابلسيون خلال الأعوام القليلة الماضية أيّة تحركات سياسية أو أمنية “ملحوظة” أو “قيّمة” تسعى إلى تحسين ظروفها الاقتصادية والسياحية و”الإنمائية” التي ذكرها السفير، لتكون محطّة أساسية في هذه البلاد التي عرفت وجهات سياحية باتت أشهر “من نار على علم” منذ أعوام عدّة، ولم تكن محاولة وضع طرابلس على الخريطة السياحية عبر حملة “أهلا بهالطلة” سوى قفزة إيجابية حينها، لكنّها لم تثمر سوى بعض المواقف والتصريحات الاعلامية من جهة، أو السياحية المنبثقة من توجه سياسي معروف من جهة ثانية، لكن وعلى الرّغم من هذه “المشهدية” الضيّقة التي تُكرّسها الدّولة لطرابلس، فلا يُمكن إنكار المقوّمات التي تتمتّع بها هذه المدينة التي تمزج حاضرها بماضيها.

ويُجمع المتخصّصون على أنّ وجود أكثر من 200 معلم تراثي بصبغات دينية، تاريخية وفنية، يُمكن أن يُحيي اقتصاد المدينة، عدا عن مقوّمات اقتصادية موجودة أساساً فيها كالمرفأ، معرض رشيد كرامي الدّولي، المنطقة الاقتصادية الخاصّة… فالقلعة وغيرها، المساجد، الكنائس، المدارس، الخانات والحمامات، الأسواق الشعبية، النقوش والكتابات…، كلّها تفاصيل كفيلة بدعم القطاع السياحي في المدينة.

وفي الوقت الذي كان على الرسميين استثمار هذه الثروة أو “النعمة” المحلّية، الا أنهم يقومون بتدمير مرافق المدينة سنة بعد سنة ومع كلّ أزمة تضرب البلاد، من هنا يستغرب الطرابلسيّون وجود هذه المعالم الضخمة على أراضيهم، في ظلّ غياب فندق ضخم يضمّ الزائرين، إذْ أخليَ وأقفل في نيسان عام 2019 فندق الـ “كواليتي إن” أيّ الفندق الفخم الوحيد الذي كان يتهافت عليه سياسيون وديبلوماسيون في أعوام سابقة وفيه ما يُقارب 112 غرفة بإقامة مريحة ضمن موقع “استراتيجي” في المدينة، حينها تسلّم موظفو المعرض مفاتيحه، وهي خطوة جاءت بعد طلب محافظ طرابلس والشمال القاضي رمزي نهرا تنفيذ قرار وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش، إثر خلافات دامت أعواماً بين إدارة المعرض (التي استعادت الفندق) وشركة الخدمات والفنادق المشغّلة للفندق، “لكنّها امتنعت عن الدفع منذ العام 2014، ورفعت إدارة المعرض أكثر من شكوى بحقّ الشركة المشغلة إلى وزارة الاقتصاد، مطالبة باستعادة الفندق”، حسب الوثائق.

وبعد عملية الإقفال، لم يُحاول المعنيون استعادة الفندق أو الحديث عنه، بل تحوّل إلى مركز لحجر المصابين بوباء كورونا ما رأى فيه المتابعون حينها خطوة احترازية ووقائية جيّدة في تلك الظروف، في حين رأى آخرون أنّها بمثابة إعلان عن دخول الفندق في مرحلة إلغائه سياحياً. ومع أنّ المدينة تضمّ عدداً من الفنادق، لكنّها تبقى رخيصة وغير مناسبة لكلّ الفئات أو أنواع الوفود التي تزورها، منها ما يرتكز في ساحة التلّ وكذلك في الميناء التي تضمّ فنادق جيّدة وغير رخيصة أيضاً، لكنّها تبقى بعيدة نوعاً ما عن مركز المدينة بمرافقها ومعالمها الداخليّة.

ولا يقتصر الاهمال على الفنادق فحسب، بل يُمكن التأكيد أنّ إهمال ترميم المباني الأثرية والمعالم التراثية كالقناطر المميّزة بين شوارع طرابلس وأسواقها، فتّت هذه المعالم من أساسها، وجعلها في منظر غير مناسب على الإطلاق بل دمج هذه المظاهر التاريخية بمعالم الفقر والإهمال، الأمر الذي قد “يبهت” الرؤية، لكن ليس خافياً على أحد أنّ وجه طرابلس التراثي كان ولا يزال قادراً على جذب النّاس الذين يُبدون إعجابهم بمدينة صامدة اعتنقت التاريخ ولم تنبذ الحاضر المؤلم.

شارك المقال