عون ضرورة لـ”الطائف”!

علي نون
علي نون

كان ميشال عون عنواناً من أهم عناوين “صنع” اتفاق الطائف. وهو الآن أهم عنوان من عناوين “ضرورة” هذا الاتفاق! كان ولا يزال من ألدّ أعداء التسوية التي أفضت إلى وضعه أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكنه كان ولا يزال أحد “أبلغ” المسببين لبقاء تلك التسوية حتى بعد أن انقلب الزمان وصارت الفواصل بين أطرافها الإقليمية أكبر وأهم من الجوامع السابقة.

كل ما يفعله لنسف الطائف والدستور الذي نتج منه وعنه، يثبت ويؤكد الضرورة القصوى والمصيرية للتمسك به! باعتبار أن العودة بالزمن إلى الوراء، أي إلى ما سبق إقراره في المملكة العربية السعودية، أمر بالغ الاستحالة تبعاً لاندثار ذلك “الوراء”، وتبعا للأثمان والأكلاف التي لا يريد أحد تحملها، أو بالأحرى لا قدرة لأحد على تحملها !

اتفاق الطائف وضع بعد انتهاء الحرب الباردة نتيجة انهيار المعسكر الاشتراكي. وجاءت التسوية المركبة التي أنتجته كجزء من تسوية عالمية شملت معظم مواقع المواجهة بين موسكو ومعسكرها من جهة وواشنطن ومعسكرها من جهة ثانية. وذلك عنى انهياراً على طريقة الدومينو وليس على طريقة الحروب الكبرى التي تغير الخرائط وتبخر الأمبراطوريات وتعيد إنتاج الوطنيات الموؤودة تحت رمل الشموليات ووطأة الضم بقوة الحديد والنار، أو بقوة الأدلجة المدعمة بدورها بالحديد والنار.

على “هامش” ذلك التاريخ، كان حافظ الأسد يقول إنه لم يكن جرماً من أجرام الفلك السوفياتي كي يسقط بسقوطه، وكان محقاً في ذلك على طريقته، ولذلك بقي نظامه حتى بعد أن ذهب هو شخصياً. وفي مقابله كان صدام حسين مثله في القراءة والتحليل لكنه لم يكن مثله في الأحكام والمرونة، بل رأى في المتغيرات الدولية الكبرى فرصة لأحلام اقليمية “صغرى” تمكنه من إعادة صياغة خريطة المنطقة العربية والتسيّد على جزء منها… وأي جزء؟ حيث عصب الاقتصاد العالمي وحبل وريده الخارج من رمال الصحارى إلى العالم بأسره… فدفع الثمن واندثر وأخذ معه العراق!

وكان على هامش ذلك الهامش “ظاهرة” في لبنان اسمها ميشال عون: خليط هجين من مشاعر عظمة نازلة من عند رب العالمين، مع محاكاة كئيبة، شكلاً ومضموناً، لسيرتي كبيرين في زمنهما هما نابليون بونابرت الآتي بعد الثورة الفرنسية، وكميل شمعون الآتي بعد الاستقلال وفي ذروته.

غابت عن الهامشين: صدام وعون “بديهة رجل الدولة” التي تعني في أساسها الدقّة في التشخيص للوصول إلى دقّة في الاستنتاجات والخلاصات: عرف كميل شمعون أن الإنزال الأميركي في بيروت عام ١٩٥٨ لم يكن لحمايته بل لحماية منظومة المنطقة التي فيها النفط واسرائيل. والضرورة المصيرية لعدم تمدد السوفيات خارج حدود قمتي طهران ومالطا، اللتين واكبتا نهاية الحرب العالمية الثانية ورسمتا خريطة تقاسم الأمم والدول ومراكز النفوذ. وعندما أيقنت أن مخاوفها ليست في مكانها، أنهت الإنزال وأخرجت عسكرها من بيروت! عرف شمعون ذلك وحاول بخفر التفلت من تبعاته لكنه في اللحظة الواقعية التي يعرفها “رجل الدولة” انسحب وترك للتسوية الإقليمية – الدولية أن تنتج رئيسًا من قامة وخامة الجنرال فؤاد شهاب!

لم يشخّص صدام معنى انهيار المعسكر الاشتراكي بدقّة، بل ركب رأسه وراح في الوهم بعيداً. ولم يعرف معنى أن يأتي إليه في العام ٢٠٠٣ يفغيني بريماكوف ليطلب منه عدم التمنع أمام الاميركيين، وعدم الاصطدام بهم، فذهب إلى ما ذهب إليه من مآلات ونهايات! ولم يعرف عون في لبنان معنى أن “يقبل” حافظ الأسد المشاركة في إنتاج اتفاق إنهاء الحرب اللبنانية من مدينة الطائف السعودية، فذهب إلى التظاهر أمام السفارة الأميركية في عوكر، ثم إلى حربي الإلغاء والتحرير، ثم… إلى المنفى الفرنسي المديد!

وإلى الآن، لم يستوعب بعد معنى أن الإجماع الإقليمي والدولي لا يزال مقيماً عند تسوية الطائف ولا يبحث عن غيرها. ولم يستوعب تماماً، معنى أن يكون الفاتيكان (مثلاً) وبكركي أساساً واستطرادا، من أشد المتمسكين بالدستور وبالتالي بالتسوية التي منها عبر اتفاق الطائف… يراهن اليوم على إيران مثلما سبق وراهن على صدام! ويسيء الحكم والقراءة والاستنتاج مثلما سبق وفعل أواخر تسعينيات القرن الماضي. لا ينتبه مثلاً وأيضاً، إلى أن الروس اليوم في الملف اللبناني هم ذاتهم روس الأمس، مع الأميركيين وليس على الضد منهم! ولا ينتبه إلى أن الرعاة الإقليميين الكبار من الرياض إلى القاهرة وما بينهما ومعهما، والرعاة الأوروبيين من برلين إلى باريس وما بينهما ومعهما، “يفكرون” في كيفية المساعدة في انهاء الاستعصاء السياسي اللبناني المرحلي، وليس في نسف دستوره وزيادة ذلك الاستعصاء ودفعه إلى ذرى استراتيجية لا أحد يريدها! ولا ينتبه أولا وأساساً، إلى أنه في كل مرة ومرة يركبه الوهم، يسبب للبنانيين بلاء لا يوصف، وللمسيحيين تحديداً أكثر من غيرهم.

رهانه على إيران اليوم يشبه رهانه على صدام في أيامه: يمشي بعكس السير. ولا تهمه التبعات طالما أن البوسطة التي يقودها ليست ملكه، والركاب لبنانيون لكنهم ليسوا كلهم معه ومن أجله، بل جلهّم في عرفه، جناة يجب أن يدفعوا ثمن رفضهم التحرر على يديه… قراءته الأنوية هي ذاتها. ولذلك فقد كان على حق تماماً عندما ذكّر مريديه أخيراً بأنه ميشال عون! يعني أي شيء إلا رجل الدولة الذي كانه كميل شمعون والذي انسحب من الرئاسة المرحلية لكنه بقي بطريركاً سياسياً دائماً عزّ نظيره في لبنان الحديث… وأي شيء إلا بونابرت الذي انزوى في سانت هيلانة بعد انكساره لكنه بقي في التاريخ واحداً من أعظم ما أنتجته أوروبا في كل تاريخها!

إقرأ أيضاً: بالفيديو – خواجة لـ”لبنان الكبير”: عون سرّع الانهيار

لا ينتبه الموهوم عندنا، إلى أن ايران في حالتي التسوية أو المواجهة بعد مفاوضات فيينا، لن تكون قادرة على تسويق خليفته المفدى عند أحد. لا التسوية ستدفع الأميركيين والأوروبيين إلى قبول “الشخصية الأكثر كرها” في لبنان، والأوقح فساداً بين الفاسدين، على ما تعنيه العقوبات الأميركية وتفاصيل ممارساته السياسية وغير السياسية التي يعرفها الفرنسيون وكل الأوروبيين. ولا فشل المفاوضات في فيينا سيعني قدرة لإيران على فرض شيء دستوري في لبنان وعلى اللبنانيين.

ميشال عون أراد ويريد نسف الطائف فكرّسه. وأراد ويريد جعل صهره خليفته فقضى عليه أو يكاد! المشكلة العويصة في الأمرين هي أن اللبنانيين دفعوا ويدفعون ثمن خطايا ليست من صنعهم بل من صنع ظاهرة صار مكانها معروفاً في التاريخ وهو بالتأكيد غير ذلك الذي نزل فيه الرئيس شمعون أو الأمبراطور بونابرت.

شارك المقال