طرابلس تستغيث: فوضى التسليح بغطاء من “الصمت”

إسراء ديب
إسراء ديب

تغرق مدينة طرابلس في الأزمات المتلاحقة، وتكاد تكون أزمة الرصاص الطائش من أبرز هذه الأزمات التي باتت تُشكّل تهديداً واضحاً للمواطنين الذين يشددون على أهمّية الالتزام بالمنازل الآمنة عوضاً عن التعرّض لمخاطر هذا النوع من الاجرام الذي يُكلّف الطرابلسيين ثمناً باهظاً بصورة شبه يومية لا تقتصر على منطقة دون أخرى، إذْ تنتشر هذه الآفة بوضوح لا يخفى على أحد، ولا تكاد تمرّ ليلة في المدينة إلّا ويستيقظ أهلها على أصوات الرصاص والقنابل التي تُلقى بسبب وبلا سبب.

ومن دون أيّ محاولة جدّية من المعنيين للحدّ من الفلتان الأمني المقلق، يُؤكّد مصدر أمنيّ لـ “لبنان الكبير” أنّ التحقيقات غالباً ما تُشير إلى أنّ معظم المشكلات باتت تقع لسببين: الأوّل يكمن في نسبة التعاطي المتمثلة بالحبوب المهدّئة والمخدّرة، والثاني مرتبط بخلافات عائلية سابقة أو حالية.

ويُضيف: “الفوضى المستشرية التي نرصدها أخيراً تُغطيها السياسة بلا أدنى شكّ، إذْ هناك بعض الأطراف السياسية التي تستفيد من الصراعات لتوظيفها في إطار صراعاتها السياسية بصورة مستمرّة، وهو ما يُفسّر سبب وجود أسلحة مكلفة وبرصاصات مكلفة أيضاً بين مطلوبين من الفئة الشابة التي لا تتعدّى أعمارها الـ 30 عاماً وهم في معظمهم أصغر من 25 سنة وتحت السنّ القانونيّة. ولا يُمكن إخفاء أنّ تجار السلاح يلعبون دوراً واضحاً في بيع الأسلحة بسعر رخيص، لذلك قد يكون سبب انتشار السلاح سياسياً لإثارة النعرات والفوضى المستمرّة، فيما قد يكون تجارياً أيضاً لتحقيق الأرباح، لكن نؤكّد أنّ الشبان من المهمّشين وبالتالي إنّ حصولهم على أسلحة ورصاص وغيرها من التقنيات العسكرية يُثير أسئلة مختلفة”.

أكثر من شاهد عيّان من المدينة يعتبر أنّ الفوضى في المدينة وصلت إلى مستوى غير مقبول على الاطلاق، فصحيح أنّ شكلها لا يقتصر على الأحداث التعيسة وحسب، بل ينسحب على الأحداث المفرحة أيضاً، لكنّه تطوّر “شكلياً” بعد رؤية العديد من المواطنين ملثمين يحملون أسلحة على الطرق.

ويقول أحد الشهود: “كنت أسير قرب أحد شوارع الزاهرية منذ يومين تقريباً، فرأيت عدداً من المسلّحين المثلمين على الرصيف، وكان شكلهم غريباً للغاية، وأذكر جيّداً أنّني رأيت هذا المشهد سابقاً خلال اشتباكات جبل محسن – باب التبانة، فكانت الاضطرارية بحجّة النزاع بين المنطقتين تُفسّر ما يحدث، أمّا اليوم فلا نرى حجّة لمشاهدة هذه المظاهر التي لا تُمثّل أهالي المدينة الذين يُريدون السلام فقط”.

أمّا شاهد آخر من سوق القمح وبعد تضرّر سيارته بفعل الرصاص العشوائيّ الذي أطلق مع تشييع شهداء طرابلس الذين سقطوا في الجنوب يوم الثلاثاء، فيوضح أنّ “أيّ حدث طارئ (وقد لا يتعلّق بمصالح المدينة وأهلها)، يُقفل أسواقها التجارية التي تحتاج إلى نهضة تدعمها من جهة، كما يحتاج الزبائن فيها إلى الشعور بالأمان والاستقرار من جهة أخرى كيّ نتمكّن من الاستمرار، وصحيح أنّ الحدث الأخير الذي واجهته المدينة مع استشهاد اثنين ودفنهما في المدينة كان أمراً عاجلاً وصعباً، لكن لم يكن أحد يدفع إلى الاخلال بالأمن بهذه الطريقة، فكان زجاج سيارتي هو الضحية التي لا أتمكّن من تعويضها حالياً”.

في الواقع، لم يرحم أصحاب الفوضى ومعظمهم من الشبان، المدينة وأهلها خلال تشييع أحمد عوض (أبي بكر) وخلدون ميناوي، اللذين سقطا باستهداف اسرائيلي أثناء وجودهما في المنطقة الحدودية، وقبل وصولهما إلى مسجد التقوى ودفنهما فيما بعد في جبانة التبانة يوم الجمعة، عاشت المدينة أياماً من الغضب.

ومنذ يوم الثلاثاء ارتفع صوت الرصاص بالأسلحة التي يتجاوز سعرها الـ200 دولار، والقنابل التي لا يقلّ سعرها عن 50 دولاراً (حسب معطيات) فوق أصوات المشايخ والناشطين وكذلك المواطنين الذين ناشدوا الشبان عدم إطلاق الرصاص، وأصدر الكثيرون منهم مقاطع مصوّرة تتحدّث عن “حرمة” هذا الفعل الذي لم يلتزم بالحدّ منه إلّا قوى الجيش والمغاوير الذين تدخلوا عسكرياً وألقوا القبض على العديد من مطلقي النار.

في السياق، يلفت أحد المواطنين الذين واكبوا التشييع، إلى أنّ الرصاص المخيف استمرّ طيلة التشييع بطريقة مخيفة جداً، ويقول لـ “لبنان الكبير”: “حسب ما رصدت، فإنّ مخابرات الجيش تدخلت فعلياً عندما انتهت مرحلة الدفن، وألقت القبض على العشرات من الشبان كان معظمهم من محيط المنطقة التي دفنا فيها، كما أنّ معظم المسلّحين كان يدّعي معرفته بأبي بكر وهذا لم يكن صحيحاً على الإطلاق، فلو عرفوا أبي بكر لما أطلقوا الرصاص وبثوا الرعب في قلوب الناس”.

وشهد مواطن آخر من التبانة، على إلقاء مخابرات الجيش القبض على أحد المسلّحين الذي كان يُجاهر بسلاحه عالياً لـ “يُخرطشه”، ما دفعها إلى التدخل وإمساكه من يده سريعاً، فيما كان يعمد ملثمون إلى الوقوف أمام الجيش وإطلاق الرصاص وتحدّيه مباشرة بالقرب من دوار نهر أبو علي، وكلّهم على الأرجح ألقي القبض عليهم مع القيام أيضاُ بمداهمة منزل أحد المطلوبين بجرم الاتجار بالأسلحة.

إنّ الظهور المسلّح بات عادة لا يقدر أحد على الحدّ منها، لا سيما في الأيّام القليلة الماضية التي كشفت أنّ عدد المطلوبين وحجم ظهورهم ميدانياً أصبح أكثر بكثير من السابق، ووفق المعطيات فإنّ الطلقات التي استخدمت تفوق قدرة الفقراء لا سيما في المناطق والأحياء الشعبية التي كانت أكثر عرضة لهذه المظاهر التي تُثبت هشاشة أمنية بلا أدنى شكّ، إذْ استخدم هؤلاء أكثر من 200 ألف طلقة مع المئات من القنابل التي ألقيت في مجرى نهر أبو علي الملوّث، في وقتٍ يفوق سعر الطلقة الواحدة سعر ربطة الخبز التي يحتاج إليها الآلاف يومياً من المدينة وقد يصل سعرها إلى دولار واحد، ما يُشير إلى خطورة الآفة التي تحمل ألف علامة استفهام حول مصدر الرصاص الذي يُؤذي ممتلكات الناس وأرواحهم.

وبعد سقوط أكثر من 13 جريحاً بسبب تشييع الشهيدين (اللذين كانا يبغضان هذه العادة المسيئة وفق ما يُؤكّد الشيخ نبيل رحيم الذي يُشدّد على أنّ أبي بكر كان يرفض كلّ مطلقي الرصاص، متمنّياً أن يُطلقها على قدم مطلقها كيّ يتعلّم بشاعة هذا الفعل المشين)، كانت تشتعل نيران الفتنة في المدينة مع تعليق البعض صور رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الميناء، ساحة النو، وكتب عليها “رجل دولة”، ما دفع البعض إلى حرق إحداها في ساحة بيستاشيو – دوار الميناء، الأمر الذي رفع مستوى التوتر من جهة، وأدّى إلى إشكال كبير بين مناصري الرئيس ومعارضين من جهة ثانية، خصوصاً وأنّ معارضة الشبان تأتي نتيجة عدم إعلان ميقاتي الحداد على أرواح شهيدي طرابلس، إضافة إلى استشهاد ربيع المعماري مصوّر “الميادين” وهو من طرابلس أيضاً.

في السياق، لا يُدرك مقرّبون من ميقاتي هوية من وضع هذه اللافتات في الطرق وتحديداً في هذا التوقيت الدقيق، وعمّا إذا كان هذا الفعل مقصوداً لاثارة النعرات أم لا، ويُشدّدون لـ “لبنان الكبير” على أنّ الرئيس ضميره مرتاح، “فقد أدّى واجبه الوطني ومهمّته الوزارية قدر المستطاع في ظلّ ظروف قاسية وصعبة مرّت على البلاد وكسلطة تنفيذية قائمة على عكازة تصريف الأعمال، ولا يجب على أيّ طرف تحميله أكثر من طاقته التي تحمّلت أزمات وطنية تفاقمت خلال عهدٍ بلا رئيس وبلا دعم”.

شارك المقال