هدنة غزة… سلام القوة لا قوة السلام!

أنطوني جعجع

غزة بعد الهدنة تشبه ذئباً اسرائيلياً لم ينتهِ من نهش فريسته، ومرابياً ايرانياً لم ينتهِ من احصاء غنائمه.

هذا ما يمكن أن يقال عن المشهد في غزة بعد ستة أسابيع من معركة كانت الشعارات فيها أكثر صخباً من انجازات الأرض، حيث فشل بنيامين نتنياهو في “اقتلاع” حركة “حماس” التي انتقلت بدورها من القتال خارج القطاع الى الدفاع عن نفسها في عمقه.

ويتفق الكثير من المتابعين والمحللين على أن اسرائيل لا يمكن أن تتغنى باحتلال القسم الشمالي من غزة، وأن “حماس” لا يمكن أن تتغنى من جهتها باطلاق كوكبة من المعتقلين الفلسطينيين، اذ ان ما أنجزته اسرائيل على الأرض كان دون الرهانات، وان ما حققه الفلسطينيون كان دون الطموحات.

وفي معنى آخر يمكن القول في الجانب الاسرائيلي ان “الجبل تمخض فأنجب فأراً”، وفي الجانب الفلسطيني ان ايران توعدت فأنجبت نأياً بالنفس.

وانطلاقاً من هذا المشهد، لا يجد المراقبون والمحللون أي سبب في حسابات اسرائيل قد يدفعها الى انهاء الحرب، ولا أي سبب في حسابات الأميركيين يمكن أن يدفعهم الى الاكتفاء بما حققته اسرائيل أو التسليم بما تديره ايران حتى الآن، ولا أي سبب في حسابات طهران قد يدفعها الى القبول بأي حل عسكري أو سياسي قد يأتي على حساب حلفائها في فلسطين أو لبنان أو أي محور في هلال الممانعة.

ويذهب مصدر ديبلوماسي غربي بعيداً الى حد القول: ان الهدنة الأخيرة لم تكن لتأخذ مكانها لولا حاجة اسرائيل الى “استراحة محارب”، وحاجة “حماس” الى “التقاط أنفاس”، ولولا حاجة الطرفين الى “انجاز” لم يجداه الا في قبول الوساطة العربية التي أدت الى تبادل أسرى من الطرفين، وتحديداً أسرى اسرائيل الذين شكلوا شوكة في خاصرتها، وأسرى فلسطين الذين شكلوا عزاءً شعبياً طغى على دمار غزة ودماء أبنائها.

وما يؤكد هذا الواقع المفخخ، هو نقل الحرب من غزة مؤقتاً وتأجيجها في الضفة الغربية على المستوى الاسرائيلي، والى جنوب لبنان والعراق والبحرين الأحمر والهندي على المستوى الايراني، اضافة الى تحريك الجبهة الأوكرانية وضخ المسيرات الايرانية المطورة في أجوائها، في محاولة لتحريك جبهة أخرى ساخنة في وجه الأميركيين المحتشدين في المنطقة.

وحدهم الأميركيون يمارسون حتى الآن ضبط النفس ويحاولون ادارة حرب غزة وفق خارطة طريق محشوة بالخطوط الحمر التي يحرص الجميع على احترامها حتى اشعار آخر على الأقل.

واذا كانت أميركا نجحت حتى الآن في عدم الانجرار وراء المناوشات والاعتداءات التي تعرضت لها قواعدها العسكرية في سوريا والعراق، مكتفية بضربات مركزية من باب رفع العتب أو من باب “نحن هنا”، فان ذلك قد لا يمكن أن يحافظ على هذه الوتيرة، اذا استمر الحوثيون في التعرض للناقلات والسفن التجارية في البحر الأحمر كما حدث في الأمس، واطلاق الصواريخ والمسيرات نحو اسرائيل، واذا واصل “حزب الله” مسلسل التورط المتدرج نحو حرب واسعة محتملة على الجبهة الجنوبية، واذا واصلت ايران تغطية أو تحريك جبهات برية من هنا وأخرى بحرية من هناك الى حد الوصول الى نقطة تجد نفسها فيها في عمق حرب مباشرة وليس على أطرافها فقط.

وكشف مصدر قريب من واشنطن أن الرئيس جو بايدن الذي يتعرض لانتقادات داخلية واسعة نتيجة دعمه المطلق للحملة الاسرائيلية على غزة، بات مع مستشاريه على اقتناع شبه مطلق، بأن الثنائي الأميركي – الاسرائيلي لا يمكن أن يكسب هذه الجولة من الحرب ما دامت ايران تشرف على أكثر من جبهة وتسيطر عليها ما يساعدها على تفجير حروب أو زرع ألغام في طريق الأمن الاسرائيلي في مكان والاستراتيجية الأميركية في مكان آخر، اضافة الى اصرارها على دخول النادي النووي بأي طريقة ممكنة، مؤكدين أن أي حرب لا تشمل ايران ستكون حرباً في غير مكانها الصحيح.

وأضاف: ان كل فرقاء الحرب الحالية يملكون من أسباب مواصلة القتال أكثر من أسباب وقفه، مشيراً الى أن “طوفان الأقصى” وما تبعه كانا بمثابة جولة عسكرية مصيرية مشتركة لا عودة منها الا بفريق قتيل وآخر جريح بحال الخطر، لأن أي حل آخر لن يكون الا سعياً اسرائيلياً يعطي “فلسطينيي السلام” ما يشبه دولة مجردة من مخالبها، ولن يعطي “فلسطينيي المقاومة” الا ذريعة للاحتفاظ بالسلاح على حدود اسرائيل، والتمسك بالهلال الذي تديره ايران جنباً الى جنب مع “حزب الله” وسائر القوى الممانعة في المنطقة.

وسط هذه الهدنة، لا شيء في غزة أو جنوب لبنان يوحي بأن المقاتلين يستعدون للعودة الى ثكناتهم ومواقعهم، ولا شيء يوحي بأن طرفي القتال سواء في غزة أو جنوب لبنان باشرا البحث عن مخارج ديبلوماسية، بل يوحي بأن اسرائيل تتهيأ لجولة جديدة تختلف في نوعيتها عن الجولة السابقة، وأن حماس تتهيأ مع “حزب الله” لجولة جديدة تختلف في سلاحها وتكتيكاتها وأهدافها عن جولة الأسابيع الستة الأخيرة.

وسواء اتفق الفريقان على تمديد الهدنة أو لا، يكشف مصدر ديبلوماسي أن نتنياهو يريد من الهدنة اطلاق أسراه، وكذلك الادارة الأميركية، ليس للحد من ضغط الشارع الاسرائيلي وحسب، بل لدخول الجولة الجديدة من القتال من دون عراقيل أو هواجس أو أخطاء.

ويضيف: ان ايران التي تعتبر أن الجولة الأولى أدت قسطها على مستوى الصمود، ستجد نفسها في مستقبل قريب أمام خيارين: اما الموافقة على حل ديبلوماسي يعطي الفلسطينيين دولة منزوعة السلاح وفق ما اقترح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ولم يعترض عليه العرب، وهذا يعني عملياً التخلي عن أهم ورقة اقليمية ثمينة تملكها في المنطقة، واما التمسك بالسلاح سعياً الى تحرير كل فلسطين أو قيام دولة مكتملة المواصفات، وهو ما يعني الدخول في حرب تؤدي اما الى غالب ومغلوب واما الى توازن رعب أو توازن قوى.

حتى الآن، اسرائيل التي عطلت مطار دمشق لقطع الطريق على الترسانة الايرانية، لم تهضم عار “طوفان الأقصى” بعد، وقد لا تهضمه أبداً، و”حماس” لم تستثمر ما جرى في غلاف غزة الا على المستوى المعنوي وحسب، ما يعني عملياً أن ما جرى كان “سلام القوة لا قوة السلام”، وأن المنطقة أمام فريق مضطر الى مواصلة القتال ولو فقد نصف قواه العسكرية وتدعمه أميركا، وآخر مضطر الى مواصلة الصمود ولو فقد نصف رجاله وشعبه وتدعمه ايران.

وانطلاقاً من هذه الوقائع، لا شك في أن المنطقة بعد الهدنة لن تكون أقرب الى حل الدولتين الذي تقوده السعودية، بل أقرب الى الحلول العسكرية التي يمكن أن تجر الجميع الى الميدان وفي مقدمهم “حزب الله” الذي خسر كوكبة من قادته الرئيسيين في “معركة الهاء” يخشى العالم أن تتحول الى “حرب الغاء” في أسوأ الاحوال وفي أفضلها الى “حرب احتواء”.

في اختصار، انه الوقت الضائع الذي ينتظر الغد لمعرفة ما قرره المتحاربون في الغرف المغلقة.

شارك المقال