اسرائيل… لا أصدقاء لنا في لبنان!

أنطوني جعجع

يخطئ من يظن أن هناك مكاناً آمناً في لبنان يمكن أن يلجأ اليه “حزب الله” سواء كان مسلحاً أو أعزل، ويخطئ أكثر من يظن أن اسرائيل تجد في أي طائفة لبنانية أو أي حزب أو تيار حليفاً أو صديقاً يمكن الركون اليه أو يمكن تحييده في أي قصف أو أي اجتياح أو أي عملية عسكرية من أي نوع.

هذا ما تهمس به أوساط ديبلوماسية غربية وهي تراقب الالتفاف الاعلامي والوطني والشعبي اللبناني غير المسبوق حول فلسطينيي غزة، واللغة العدائية التي تنتهجها الغالبية اللبنانية الاسلامية منها والمسيحية حيال الكيان الاسرائيلي وعملياته العسكرية في غزة والجنوب سواء كان ذلك من باب الاقتناع أم من باب “المسايرة”.

وذهب مصدر ديبلوماسي بعيداً الى حد القول: ان اسرائيل تنظر الى لبنان بعد انسحابها منه في العام ٢٠٠٠، على أنه بلد معاد ومفخخ لا وجود فيه لأي خصوصيات أو استثناءات أو أي ملاذات آمنة، مشيراً الى أنها تنظر الى المسيحيين فيه على أنهم مجرد مواطنين مستسلمين لما يفعله “حزب الله” سواء من باب التعاطف كما يفعل “التيار الوطني الحر” أو من باب العجز كما تفعل الأحزاب المسيحية الأخرى.

وأضاف المصدر: ان اسرائيل تنظر الى لبنان أيضاً على أن الحساب معه لم ينتهِ، أي حساب العام ٢٠٠٦ الذي سجل فيه “حزب الله” أول انتكاسة في الهيبة العسكرية الاسرائيلية مسهماً بذلك في تعزيز “الحركات الجهادية” في المنطقة وتحديداً في المحور الذي تقوده ايران، معتبرة أن لحظة الانتقام أو رد الاعتبار قد حانت.

وقد برز هذا الواقع في التحذير الذي وجهه رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو الى “حزب الله” وعبره الى العالم واللبنانيين، مهدداً بـ “انهاء لبنان” اذا تورط في الحرب، وكذلك في التحذير الآخر الذي وجهه المتحدث باسم الحكومة الاسرائيلية الى اللبنانيين بكل طوائفهم، ملوحاً بحرب “غير مسبوقة” ضد بلادهم رداً على الهجمات العسكرية التي تتعرض لها اسرائيل من أراضيهم.

وليس سراً أن نتنياهو وحكومته أرادا من خلال هذين التحذيرين اللذين وصفا “حزب الله” بأنه “عدو لبنان وعميل ايران”، اطلاق رسالتين، الأولى أن مسؤولية أي حرب مدمرة يتعرض لها لبنان تقع على عاتق حسن نصر الله وعرابه الايراني، والثانية أن الوقت حان كي ينتفض “السياديون” على “المقاومة الاسلامية” اللبنانية حتى لو أدى الأمر الى “حرب أهلية”.

والواقع أن الرسالة الأولى هي أكثر واقعية من الرسالة الثانية، في وقت تعرف إسرائيل، كما يعرف العالم كله، أن أحداً في لبنان غير قادر في مكان وغير راغب في مكان آخر، في خوض أي مواجهة غير سياسية وغير متكافئة مع تنظيم مسلح يبدو مجهزاً ومدرباً ومسلحاً الى الحد الذي يسمح له بالقتال في أكثر من جبهة وضد أكثر من عدو، وفي وقت لا يخفى على أحد أن قرار الحرب والسلم يتخذ في طهران والضاحية الجنوبية، وليس في أي مكان آخر سواء كان في بعبدا أو السراي أو ساحة النجمة.

والواقع أيضاً أن اسرائيل تنطلق في تحذيراتها العلنية من جو دولي وحتى اقليمي يأخذ على “حزب الله” الانجرار نحو حرب لا تعني لبنان في المطلق لا بل نحو “حرب ايرانية بالواسطة”، قد تحول لبنان الى غزة ثانية من جهة، وقد تجر المنطقة من جهة أخرى الى حرب اقليمية قد تسحب كلاً من أميركا وايران الى ما يمكن أن يتحول الى مواجهة مباشرة.

وليست الغارة المجهولة التي تردد أن اسرائيل شنتها ضد مواقع صاروخية حوثية في اليمن، وتلك العلنية التي شنتها في الأمس على مواقع “الحرس الثوري” الايراني في سوريا ومواقع “حزب الله” قرب حي السيدة زينب، الا طلائع الدلائل التي تنذر باقتراب ما يمكن أن يكون حرباً اقليمية تمتد من طهران الى البحر المتوسط.

وما قام به الاسرائيليون على الأرض وما أعلنوه فوق الطاولة، تماهى مع ما أعلنه تحت الطاولة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان في بيروت محذراً من أن الحرب بين “حزب الله” واسرائيل لن تكون هذه المرة نسخة عن حرب العام ٢٠٠٦ بل ستتجاوزها الى حدود التدمير الكامل الممتد من الجنوب حتى آخر منطقة من لبنان.

وكشف مصدر قريب من دوائر القرار في باريس أن لودريان نقل الى المسؤولين في “حزب الله” أن اسرائيل لا تمارس سياسة التهويل الاعلامي كما كانت الحال في أوقات سابقة، داعياً الى أخذ الحشود الاسرائيلية قبالة الجنوب على محمل الجد وعدم التعامل معها بخفة أو استخفاف . وأكد أن أي حرب قد يشنها الجيش الاسرائيلي ضد لبنان تلقى دعماً أميركياً مباشراً قد يصل عند الحاجة الى حدود التدخل المباشر.

وأضاف المصدر: ان فرنسا لن تكون قادرة على عمل أي شيء لمصلحة لبنان اذا تعرض لعدوان اسرائيلي، مشيراً الى أن “حزب الله” حصد من الأعداء العرب والأجانب ما لم يحصده أي فريق اقليمي آخر في المنطقة، وتحول بالنسبة الى معظم عواصم القرار الى هدف مطلوب للعدالة “بأي ثمن وأي طريقة”.

وأردف المصدر: ان لودريان نصح المسؤولين اللبنانيين بالابتعاد عن الدخول في حرب غير مضمونة النتائج، والذهاب الى انتخاب رئيس للجمهورية والاحتفاظ بما يملكونه من قدرات عسكرية وسياسية وشعبية استعداداً للدخول بقوة الى مؤتمر سلام يعده المجتمعان العربي والغربي لايجاد تسوية سياسية للمشكلة الفلسطينية تقوم على أساس حل الدولتين.

وكشف أن المبعوث الفرنسي اقترح على “حزب الله” سحب “قوات النخبة” من الخط الأزرق نحو نهر الليطاني ووضع هذه المساحة تحت ادارة الجيش اللبناني وقوات “اليونيفيل” بموجب القرار الرقم ١٧٠١، محاولاً بذلك ضمان أمرين: الأول حماية القوات الفرنسية العاملة في اطار قوات الطوارئ الدولية، والثاني الحؤول دون اجتياح بري اسرائيلي مدمر قد يرسم المنطقة العازلة المنشودة بالقوة فوق أنقاض الجنوب والقسم الأكبر من لبنان.

لكن مصدراً عسكرياً غربياً أكد أن المعركة البرية في جنوب لبنان ستكون أكثر كلفة من تلك الدائرة في غزة، مشيراً الى أنها لن تتخذ شكل “النزهة الآمنة” بل شكل الاجتياح الدامي والمجنون الذي قد لا يتوقف قبل تحقيق هدفه الأساس أو أي هدف ثمين آخر، خصوصاً أن الزخم الذي ستنتهجه اسرائيل في معركتها المرتقبة مع “حزب الله”، لا يشبه اطلاقاً ما انتهجته في “حرب تموز”، وقد لا تقتصر فقط على جيشها الذي يعول في مكان آخر على قوة نارية هائلة من البحرية الاميركية التي لم تنسَ ما أصاب قواتها في بيروت في العام ١٩٨٣.

وأكثر من ذلك، قال المصدر: ان على “حزب الله” وايران أن يعرفا هذه المرة أن أي حرب مقبلة لن تكون حرباً تقليدية أو حرباً محدودة في المكان والزمان، بل حرب لن تجد من يلجمها أو يوقفها عند أي حدود لم يرسمها طرفا القتال أي اسرائيل وأميركا أو لم يصلا اليها في أفضل الأحوال.

وما ساهم في تعزيز هذه النظرية ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن من أن بلاده لن تسمح بانتصار “حماس” وستبقى أقرب حليف يمكن أن تحظى به اسرائيل، واضعاً بذلك حداً لأي رهانات واعدة لدى محور الممانعة في ما يتعلق بنتائج الحرب.

لكن مصدراً في محور الممانعة استخف بهذه التحذيرات، قائلاً: انها تدخل في اطار النظريات لا المعطيات. وأكد أن “أي تورط حربي بري اسرائيلي في جنوب لبنان سيلقى ما هو أسوأ مما لاقاه جيش الاحتلال في العام ٢٠٠٦”، كاشفاً أن “حزب الله” لن يكون وحده في هذه المعركة التي قال انها ستكون معركة حياة أو موت.

وأضاف: ان على اسرائيل أن تنتصر في غزة الصغيرة والمحاصرة أولاً قبل أن تفكر في التعرض للبنان الأكثر مساحة والأقوى تدريباً وعتاداً والأمتن تماسكاً على الأرض. وحذر من أن قوى الممانعة مجهزة في شكل يسمح لها بالقتال والتصدي لأي عدوان يأتيها من البر والبحر، مشيراً بذلك الى البوارج الأميركية الراسية قبالة الشواطئ اللبنانية.

وذهب المصدر بعيداً الى حد القول: ان “حزب الله” يعرف هذه المرة ماذا ينتظره، ويعرف أن الحرب، اذا اندلعت، فستحدد ليس مستقبل لبنان وحسب، بل مستقبل المنطقة كلها وتحديداً مستقبل الخط الممانع فيها، مشيراً الى أن أي خسارة أو انتكاسة ستعني انهيار المنظومة العسكرية التي تبنيها ايران منذ ثورتها الاسلامية في العام ١٩٧٩.

وسط هذه الأجواء، يقف العالم المعني بملف لبنان على أعصابه، لعلمه أن الفريقين لا يمكن أن يخوضا حرباً لا يمكن لأحدهما الانتصار فيها لأن عكس ذلك سيعني نهاية اسرائيل في مكان ونهاية لبنان في مكان آخر، لا بل نهاية لواحد من النفوذين الأميركي والايراني في الشرق الأوسط، وهما النفوذان اللذان تعرضا قبل يومين لأول امتحان من خلال الصواريخ والمسيرات التي أطلقها الحوثيون في اتجاه سفن حربية أميركية.

انها العاصفة التي تتجمع على طول الهلال الممانع في انتظار الساعة الصفر، فهل يتقدم “حزب الله” الصفوف ويمضي قدماً في معركته “الالهائية” التي يمكن أن تتحول الى معركة تدميرية شاملة تسعى هذه المرة لا الى تحرير شبعا وكفرشوبا بل الى انقاذ الورقة الفلسطينية الأغلى ثمناً في جعبة ايران؟

كل الاحتمالات متربعة على الطاولة في وقت تعتبر اسرائيل أن لا أصدقاء لها في لبنان، وفي وقت يعتبر “حزب الله” أن لبنان في حساباته العقائدية لا يأتي أولاً، لا قبل غزة اليوم ولا قبل بشار الأسد أمس ولا قبل ايران غداً.

شارك المقال