بعبدا خاوية… من يحمي ظهر المقاومة؟

أنطوني جعجع

هل يستطيع “حزب الله” أن يصمد أكثر من دون رئيس للجمهورية في قصر بعبدا؟ وهل يمكن لايران أن تصمد أكثر على حافة الهاوية من دون الانزلاق نحو حرب اقليمية شاملة؟

في السؤال الأول، أثبتت الحرب في غزة أن النظرية التي تتحدث عن رئيس “يحمي ظهر المقاومة” قد سقطت، وفي السؤال الثاني، أثبتت المناوشات المتلاحقة من لبنان حتى البحر الأحمر، أن نظرية التلطي خلف الآخرين في طهران قد سقطت أيضاً، وانتقلت من سياسة التنصل العلني الى سياسة الشراكة المتدرجة .

وحده السلاح “يحمي ظهر المقاومة”، يقول المطلعون على مسار الأحداث في لبنان والمنطقة، معتبرين أن “حزب الله” لا يريد من أي رئيس يستقر في بعبدا أكثر من أختامه وتواقيعه.

ويرى هؤلاء أيضاً أن الرئيس الذي يريده “حزب الله” سواء كان سليمان فرنجية أو سواه لن يكون الا الحلقة التي تكمل مسلسل السيطرة على الجمهورية اللبنانية بالطرق الشرعية القائمة على قرقعة السلاح لا على الطرق الانقلابية القائمة على دوي السلاح.

والواقع، أن “حزب الله” يخوض منذ “السابع من أكتوبر” واحدة من أشرس معاركه العسكرية وأكثرها مخاطرة ودقة، تاركاً وراءه قصراً رئاسياً خالياً ومرشحاً رئاسياً حائراً، وبرلماناً منقسماً، ومؤسسات أساسية خاوية ومفلسة، وشعباً موزعاً على أكثر من موقف وتفسير وتبرير، من دون أن ينعكس ذلك لا على قراره العسكري المنفرد والمستقل والحر، ولا على “أمن ظهره”، وهو الذي فجّر حرب تموز في العام ٢٠٠٦ من دون أي تنسيق أو تشاور مع رئاسة أولى يتولاها ميشال سليمان أو حكومة يتولاها فؤاد السنيورة أو برلمان كانت الغالبية فيه لقوى “الرابع عشر من آذار”.

ويذهب مصدر قريب من الضاحية بعيداً الى حد القول: إن “حزب الله” وصل الى مرحلة لم يعد يحتاج فيها الى أي تيار أو حزب أو طائفة سواء كان تيار “المردة” أو “التيار الوطني الحر” الا ما يتعلق منها بتوحيد المسار السياسي “المقاوم” في مواجهة من يعتبرهم الصوت النشاز في البلاد أو في أسوأ الأحوال الفريق الذي يدور خارج الفلك الايراني.

لكن مصدراً قريباً من المرشح فرنجية يسترسل في تفاؤله، مؤكداً أن ما يجري في الجنوب والمنطقة يضع “حزب الله” في موقع لا يسمح بالاستغناء عنه في المعركة الرئاسية، “لأنه الأكثر التزاماً بمحور الممانعة، والوحيد القادر على التحاور مع الجميع سواء كان حسن نصر الله أو بشار الأسد أو حتى أي رئيس يدخل البيت الأبيض أو قصر الاليزيه أو القصر الملكي في السعودية”.

هذا الانطباع يعاكسه مصدر آخر قريب من خط المعارضة سائلاً: كيف يمكن أن تطلق تسمية “الرئيس المقاوم” على فرنجية من دون أن يثير ذلك رفضاً في واشنطن القلقة على مصير اسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان، وتحفظاً في باريس الباحثة عن مواقع صديقة بعد خروجها الذليل من قواعدها التاريخية في إفريقيا، وقطيعة مع السعودية التي بدأت تقترب من الشظايا التي تخرج من غزة وجنوب لبنان وتسقط قرب حدودها مع اليمن؟

وسط هذا المشهد القاتم والمعقد، يجد “حزب الله” نفسه أمام خيارين: اما الاصرار على رئيس لا يشاركه فيه أحد، وهذا أمر لا يبدو متاحاً، واما التسليم برئيس لا يكون عدواً له ولا حليفاً لسواه في مقابل الانخراط في حكومة يكون له فيها ما كان في كل الحكومات التي تشكلت بعد العام ٢٠٠٦، أي لا نصاب يتوافر من دونه ولا فيتو يملكه خصم ولا أكثرية تأخذ القرارات المصيرية من مكان الى آخر، وهو أيضاً لا يبدو متاحاً قبل انكشاح الغبار عن الصراع العسكري القائم في المنطقة.

ونعود الى السؤال الأول، الى متى يستطيع “حزب الله” الصمود من دون رئيس للجمهورية في قصر بعبدا؟ والجواب بسيط وسريع، أنه يستطيع الصمود طويلاً ما دامت غزة قادرة على الصمود طويلاً، ولا يستطيع أبداً اذا اضطرت ايران الى التفاوض مع الأميركيين على صفقة تقوم على أمرين أساسيين: أمن اسرائيل الدائم سواء في غزة أو جنوب لبنان في مقابل فك العقوبات واطلاق المفاوضات النووية، وقف الحرب في القطاع والحؤول دون سقوط “حماس” في مقابل أمن البحار في مكان ولجم الميليشيات التي تدور في فلك الممانعة أو حلها في مكن آخر، وهما أمران لا يبدوان مصدر تجاوب في تل أبيب التي غرقت في شروط انتحارية، أو مصدر قبول في واشنطن العالقة بين رأس اسرائيل ورأس الرئيس جو بايدن.

من هنا يمكن تفسير الأسباب التي دفعت “الحرس الثوري” الايراني الى التهديد باغلاق البحرين الأحمر والمتوسط الى جانب مضيق جبل طارق في خطوة توخى منها أولاً فك التحالف الدولي البحري الذي شكلته الولايات المتحدة في مواجهة المنصات الصاروخية الحوثية، ووضع الأميركيين أمام واحد من خيارين، اما التفاهم واما القتال.

وقد أثمر هذا الترهيب من خلال انسحاب اسبانيا من التحالف المذكور خوفاً من وصول النار الى مضيق جبل طارق، ومن خلال السرية التي تلتزمها دول مشرفة على البحر الأحمر ومنضوية في الحشد البحري الدولي.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، كيف يمكن لايران أن تفعل ذلك وهي التي تملك أسطولاً حربياً بحرياً بالكاد تستطيع أن تغطي به مياهها الاقليمية؟ والجواب ربما يكون، حسب خبراء عسكريين، من خلال ألغام بحرية تعوم في هذه البحار أو من خلال زوارق انتحارية، أو من خلال صواريخ بر -بحر تطلق من شواطئ غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وربما ايران نفسها الى جانب المسيرات والطائرات الحربية، وربما أيضاً من خلال خلايا نائمة بدأت بالظهور في عدد من الدول الأوروبية ومنها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

هذا في التحليلات والتكهنات لكن هل يمكن أن تفعل ايران كل ذلك من دون رد؟

الواقع أن ايران لم تعد في موقع يسمح لها بالتفرج على الخناق الذي يضيق حول ورقتها الفلسطينية الأساسية في فلسطين، ولا على الضغوط التي تمارس على “حزب الله”، لسحبه الى الخطوط الخلفية، ولا على التحالف البحري المتراكم قرب سواحلها، ولا على الرأي العام العربي والاسلامي الذي يعيب عليها عدم التدخل في أشرس حرب تشن ضد اسرائيل، ما يعني عملياً أن اللعب على حافة الهاوية وصل الى صافرة شبه نهائية، وأن عليها الاستعداد للحرب ما دام الآخرون غير مستعدين للسلام.

ونعود مجدداً الى السؤال الأول، الى متى يستطيع “حزب الله” الصمود من دون رئيس للجمهورية؟ والجواب بسيط ويكمن في أن قصر بعبدا لن يفتح لأحد مرشحيه من دون نصر عسكري كاسح في غزة وهو لا يبدو متاحاً أو وشيكاً على الأقل، وأنه لن يفتح أيضاً لأي رئيس وسطي أو سيادي من دون نصر أميركي – اسرائيلي كاسح في المنطقة، وهو أيضاً لا يبدو متاحاً أو وشيكاً ما يعني أن الرئاسة في لبنان ليست هماً ضاغطاً، وأن شعار الرئيس الذي “يحمي ظهر المقاومة” تحول الى شعار الحرب التي “تحمي ظهر ايران” أولاً والبقية يمكن أن تنتظر مسارات وحسابات أخرى ومنها هوية الرئيس الذي يدخل البيت الأبيض بعد عام.

شارك المقال