ايران… الهلال أو القتال!

أنطوني جعجع

ماذا يمنع ايران من التوجه نحو حروب مباشرة شبه حتمية سواء مع الولايات المتحدة التي تطوقها بالعقوبات والترسانات وتنقض على حلفائها في اليمن والعراق وسوريا، أو مع اسرائيل التي تنقض على حليف فلسطيني فاعل في غزة، وتهدد بالانقضاض على حليف لبناني أكثر فاعلية في جنوب لبنان، وتصطاد ضباطها الكبار الواحد بعد الآخر في سوريا، وتضربها في العمق مستهدفة منشآت ورموزاً أمنية أو علمية بارزة؟

هذا السؤال الذي كان خجولاً قبل شهرين، تحول الى سؤال مباشر وفج، بعد مقتل رضي موسوي الذي يعتبر “الخليفة غير المعلن” لقاسم سليماني، ونحو أحد عشر من قادة “الحرس الثوري” العاملين في دمشق في ضربة اسرائيلية اعتبرها المراقبون واحدة من أخطر الضربات التي تتلقاها ايران منذ “الثورة الاسلامية” في العام ١٩٧٩.

والجواب، في رأي المراقبين أنفسهم، أن الضربة الاسرائيلية شكلت خطوة استفزازية في مكان واستباقية في مكان آخر، ورداً مباشراً على ما يبدو أنها اتجاهات ايرانية لدخول حرب اقليمية شاملة براً وبحراً، عبر حلفائها في مرحلة أولى وربما عبر قواتها المسلحة في مرحلة ثانية.

هذا الرد، الذي يسبق هجوماً أميركياً دامياً على الحوثيين في البحر الأحمر، جاء بعد قرار ايران بنقل ترسانتها الصاروخية المضادة للسفن، وربما صواريخ أخرى تلقتها من روسيا، عبر مطارات سوريا وتحديداً مطار دمشق، الى “حزب الله” في لبنان استعداداً لفرملة الحركة التجارية والعسكرية في البحر الأبيض المتوسط، بالتزامن مع استعدادات مماثلة لاقفال البحر الأحمر انطلاقاً من اليمن، واقفال مضيق جبل طارق انطلاقاً على الأرجح من “الصحراء الغربية” التي تسيطر عليها “جبهة البوليساريو”، وربما انطلاقاً من بعض السواحل الأوروبية المطلة على هذه المنطقة البحرية الحساسة، وتحديداً قبرص التي فككت أخيراً عدداً من الخلايا الثورية الايرانية.

ويقول مصدر ديبلوماسي غربي: ان ايران باتت أسيرة تهديداتها، أي أنها وضعت نفسها في موقع حرج لا يسمح لها بمخاطرة مباشرة هي أقرب الى الانتحار منه الى الصراع المتوازن، ولا بتراجع مذل، مشيراً في الوقت عينه الى أن ما تعرضت له المنظومة العسكرية الثورية في ايران وخارجها وتحديداً في سوريا والعراق واليمن، اضافة الى ما تتعرض له الذراع الفلسطينية في غزة، واللبنانية في الجنوب، لم يتركا لها ترف الوقت ولا أي مجال للتلطي خلف أي مبررات أو انطواءات من أي نوع.

ويضيف المصدر: ان ايران التي تبحث عن أي نصر يتحقق على جبهة الممانعة بأي ثمن، تعرف الآن أنها خسرت مصداقيتها الأخلاقية لدى حلفائها، وهو ما برز في الخلاف العلني الذي شاب العلاقة بين “الحرس الثوري” وحركة “حماس” على خلفية الدوافع التي فجرت “طوفان الأقصى”، وأنها تتخوف الآن من أن تخسر هيبتها العسكرية الى الحد الذي يهدد بتفكيك هلالها الممانع الممتد من طهران الى لبنان، اذا واصلت خيار “النأي بالنفس”.

وليس سراً أن ايران التي فقدت من الذرائع ما يكفي لابعادها عن الحرب المباشرة، تتجه نحوها قسراً، لتجد في مواجهتها خصماً ينخرط فيها عن سابق تصور وتصميم، بعدما تأكد من أن “طهران قوية” يعني “تطرفاً قوياً”، وأن ما يجري في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن هو من صنع ايراني لصيق، وأن المشروع النووي الايراني بلغ مرحلة تكاد تلامس انتاج قنبلة غير تقليدية، اضافة الى أن أي انجاز عسكري تحققه وحيدةً أو عبر حلفائها سيعني قيام “حرب باردة” تتولاها طهران بالتكافل والتضامن مع روسيا المتأهبة في أوروبا والصين المستنفرة في المحيطين الهندي والهادي وكوريا الشمالية المستفزة في مواجهة أميركا وحلفائها الآسويين.

وسط هذا المشهد المتشابك، يمكن تفسير التوتر الذي يميز مواقف “حزب الله” المدرك أنه رأس الحربة في المنظومة الايرانية، وأن الأمور في الجنوب والمنطقة بدأت تتفلت من ضوابطها، وتنتقل الى مرحلة عسكرية أخرى يتوقف عليها مصيره ومصير الهلال الايراني عن آخره.

وما يضيء على هذا الواقع، الحملة على الكنيسة المارونية من خلال تخوين بعض مطارنتها، في محاولة لترهيب البطريرك بشارة الراعي المتذمر مما يجري في الجنوب، واستفزاز دار الافتاء، في محاولة لترهيب المجتمع السني الذي يفصل بين التعاطف مع القضية الفلسطينية والتباين مع الاستراتيجية الايرانية، وترويع قوات “اليونيفيل” في محاولة لتحذير الأمم المتحدة من اصدار أي قرار يفرض على حسن نصر الله الانسحاب الى شمال الليطاني بموجب القرار ١٧٠١ قبل وقف الحرب نهائياً في غزة.

ولا يختلف الكثير من المراقبين على أن ما يفعله “حزب الله” ليس الا نتاج تخبط يعانيه منذ قصرت ايران في تحديد استراتيجة ما بعد “طوفان الأقصى”، وتركته مع “حماس” أمام حرب قد لا يستطيعان الانتصار فيها ولا يتحملان الانكسار، واختارت سياسة الخطوة خطوة التي أدت الى حتمية الحرب المباشرة والصعبة بدل حرب الواسطة التي تخوضها مع الولايات المتحدة.

ويرى هؤلاء المراقبون، أن حسن نصر الله أدرك بعد شهرين من المناوشات أنه فقد من رجاله أكثر مما فقده في الاشتباكات المباشرة في “حرب تموز”، وأكثر مما فقدته اسرائيل في حربها البرية الطاحنة في غزة، وأن “حرب الالهاء” التي يخوضها ضد اسرائيل لم تخفف الضغط عن رجال “حماس”، وانقلبت الى ضغط اسرائيلي ودولي وضع “حزب الله” أمام واحد من خيارين: اما “الانكفاء” الذي يكسر هيبته واما “الالغاء” الذي يمسح وجوده.

وسواء كانت اسرائيل قادرة عسكرياً على دفع “حزب الله” الى الوراء أم لا، وهو أمر يعرف العسكريون الاسرائيليون أنه لن يكون نزهة ولا حرباً مضمونة النتائج، لا يبدو أن “المقاومة الاسلامية” تملك أي خيار آخر لا يكون حرباً في البر أو قصفاً في البحر ما دامت غزة في خطر، وما دام كل ما حصدته في مدى خمسة وأربعين عاماً على المحك.

ويقول مصدر عسكري غربي: ان ما يفعله “حزب الله” و”الحشد الشعبي” والحوثيون، لم يعد في رأي الغرب والعرب مواجهات من أجل غزة بقدر ما هي مناوشات من أجل ايران، وان معظم المصالحات التي أجرتها طهران أخيراً يقترب من التحول حبراً على ورق، في وقت بدأت دول الخليج تشعر بأن ما تخطط له ايران في العالم العربي من خيارات عسكرية هو غير ما تخطط له من خيارات ديبلوماسية.

ويختم المصدر قائلاً: لا بد أن ايران تشعر بأن “طوفان الأقصى” مضى على غير ما خططت له، وباتت أمام واحد من خيارين: اما سقوط الهلال واما القتال، تماماً كما كانت حال أسامة بن لادن بعد “الحادي عشر من أيلول”، مشيراً الى أن ما أرادته ضربة عسكرية ومعنوية في قلب اسرائيل، تحول الى حشد دولي يشبه ذلك الحشد الذي اجتاح أفغانستان والعراق وكاد يجتاح ايران وسوريا معاً.

انها اللحظة التي لا تجد فيها ايران أي مخارج للهرب أو الانطواء، في وقت تصر اسرائيل على خوض ما تعتبرها حرباً أخيرة، وما تعتبرها أميركا حرباً ضرورية في سعيها الى بناء “الشرق الأوسط الجديد”.

أميركا وحلفاؤها خيّروا الحوثيين بين الهدوء والمواجهة، واسرائيل خيّرت “حزب الله” بين التراجع طوعاً أو قسراً، فماذا تختار ايران؟ وأين يمكن أن تغامر أو يمكن أن تتنازل؟ هذه هي الأسئلة التي تسبق الجولة الثالثة من حرب غزة.

والجواب في أنفاق القطاع التي يمكن أن تتحول اما الى مقبرة لنخبة الجيش الاسرائيلي، وتقضي على أعتى حلفاء أميركا في المنطقة، واما الى “فتحة” يخرج منها يحيى السنوار قتيلاً أو منفياً الى طهران تماماً كما خرج ياسر عرفات من بيروت منفياً الى تونس وهزيلاً الى مفاوضات السلام، وأي شيء آخر لن يكون الا حرب استنزاف تبحث عن غالب ومغلوب بأي ثمن.

شارك المقال