ايران… حرب النواظير لا النواطير!

أنطوني جعجع

سؤال بديهي يراود المراقبين في المعسكرين الاقليمي والدولي بعد مرور مئة يوم على حرب غزة: ماذا يمنع ايران بعد من دخول حرب مباشرة سواء مع الأميركيين الذين أدموها يوم اغتالوا رجلها الأول قاسم سليماني في بغداد، أو مع الاسرائيليين الذين أدموها يوم قتلوا رجلها الثاني رضي موسوي في دمشق؟

وأكثر من ذلك، ماذا يمنعها من كشف وجهها في أي عملية أو معركة أو ضربة أو حتى مبادرة تخرج من أوساط حلفائها ووكلائها في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان؟

يكاد يجمع المراقبون على أن كل ما تفعله ايران حتى الآن هو جر أميركا وحلفائها الى مستنقع متدرج في غير مكان سواء في اليمن أو العراق أو سوريا، وجر اسرائيل الى مزيد من الاستنزاف المتواصل في غزة ولبنان، اضافة الى تحريك خلاياها النائمة في غير مكان سعياً الى انتقام أو بلبلة أو رسالة أو تحذير هنا وهناك من دون أن تضطر الى التضحية بواحد من جنودها أو عناصرها في كباش مباشر على الأقل.

وفي رأي أحد المراقبين، ان ايران التي قاتلت وحدها في حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي وتكبدت مئات الآلاف من جنودها ومدنييها، أقفلت الباب على خيار الحروب المباشرة وانتقلت الى حروب الوكلاء، يساعدها في ذلك “التوق” الشيعي العربي الى النفوذ المطلق أو المشاركة الكاملة أو الحكم الأوحد أو الاستقلالية الشاملة في الدول التي تقيم فيها، لا بل الى مرجعية دينية شيعية قوية، اضافة الى التعاطف العربي والاسلامي مع القضية الفلسطينية، لا سيما ملف القدس منها.

والواقع، أن النظام الديني في طهران قرأ الواقع الطائفي والديموغرافي في الكثير من الدول العربية والاسلامية، وتسلل عبر “الثورة الاسلامية” الى المجموعات الشيعية المعبأة في اليمن والبحرين والسعودية والكويت ولبنان، اضافة الى العلويين السوريين الذين كانوا النصير العربي الوحيد للامام الخميني في مواجهة الرئيس صدام حسين الذي كان يحاول الحؤول دون استنساخ امبراطورية فارسية جديدة على تخوم الخليج، وتمكن من بناء نواة عقائدية ملتزمة تحولت لاحقاً الى ما يشبه الدويلات المتجذرة داخل الدول.

وبعيداً من القراءة في خلفيات التاريخ الحديث، نعود الى السؤال الأول: ماذا تنتظر ايران للدخول في الحرب التي تقترب من شواطئها بعد الغارات الأميركية والبريطانية على مواقع حلفائها الحوثيين في اليمن وزوارقهم في البحر الأحمر، والغارات الأميركية الموسمية على مقار حلفائها الشيعة في العراق وسوريا؟

جواب واحد يبدو منطقياً حتى الآن، وهو أن ايران لا تزال مقتنعة بأمرين معاً، أولاً أن أميركا لن تذهب في الحرب الى ما هو أبعد من حدود الضربات المحدودة والعابرة، وثانياً أن حلفاءها لا يزالون قادرين على الصمود والقتال لا بل تحقيق ما يكفي من المكاسب وحتى الانتصارات التي تعيد خلط الأوراق في المنطقة.

لكن ما لا تعرفه ايران أو ما تحاول تجاهله على الأقل، هو أنها تخوض كباشاً هذه المرة مع عدو جريح ينشب مخالبه في كل مكان رافضاً وقف الحرب تحت أي ضغط محلي أو دولي، هو بنيامين نتنياهو، ومع عدو متوتر يرفض أن تتعرض مصالحه في الشرق الأوسط لأي تقلبات دراماتيكية، أو أن يتعرض أحد حلفائه الأساسيين لأي انتكاسات من أي نوع، هو المنظومة العسكرية الأميركية التي تعتبر أي هزيمة في الشرق الأوسط وفي اسرائيل خصوصاً، مقدمة محتملة لهزائم أخرى في أوروبا وآسيا في مواجهة العملاقين الروسي والصيني، ومقدمة أكيدة لقيام أنظمة أصولية في المنطقة على غرار النظام الايراني.

وما لا تعرفه ايران أو تتجاهله، هو أن حركة “حماس” وصلت، حسب تقديرات الخبراء العسكريين، الى الخط الأحمر على مستوى الصمود والعديد والعتاد وتسعى للوصول الى أي وقف لاطلاق النار يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس وتنظيم صفوفها من جديد، وهو أمر ترفضه اسرائيل في المطلق، وأن حسن نصر الله الذي يضطلع بدور المفاوض والمقاتل والآمر الذي تنأى عنه ايران، يكابر أمام بيئته وهو العالق في حرب من نوع آخر هي حرب المخابرات التي أسقطت له في حرب الاغتيالات ما لم تسقطه “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦، وأظهرت في صفوفه خرقاً خطيراً يجعله، من القمة الى القاعدة، في مرمى المسيرات الاسرائيلية.

وأكثر من ذلك، ترفض ايران الاعتراف بأن “حزب الله” فقد محلياً ودولياً وعربياً حجة “التحرير” التي يبرر بها سلاحه عندما ربط قراره العسكري بغرفة العمليات المركزية في طهران ومصير حركة “حماس” في غزة، وعندما تبين أن “توازن الردع” الذي تسلح به طويلاً، لم يكن في مستوى الآمال التي عقدت عليه، متجاهلة أيضاً أن التعاطف اللبناني الذي يتحدث عنه بعض الاستفتاءات انما هو تعاطف مع القضية الفلسطينية وليس الاستراتيجية الايرانية.

وليس المقصود هنا الانتقاص من قدسية الشهادة لدى “المقاومة الاسلامية” بقدر ما يُقصد الاضاءة على المأزق الذي تعانيه ايران التي أوحت أو خططت أو أمرت أو باركت “طوفان الأقصى”، لتجد نفسها بعده بين نارين: نار حرب لا تريد الاحتراق فيها، ونار حرب لا يريد العدو اخمادها.

وقد يسأل سائل وماذا بعد؟ الجواب لا يحتاج الى الكثير من التمحيص، ويتمثل في أن المنطقة خرجت من حرب المناوشات والاستنزافات الى حرب الخيارات الصعبة وفي مقدمها الذهاب الى الجبهات التي لم يعد لها بد، وأن ما فعلته أميركا في مواجهة الحوثيين انما شكل نسخة أو أنموذجاً عما ينتظر كل المرابطين على السواحل وبينهم أيضاً “حزب الله” و”الحشد الشعبي”.

أميركا اقتربت من ذلك وكذلك بريطانيا، واستفاق الأردن على خطر ايراني يهدد عرشه، وتنبهت دول الخليج الى تيارات أصولية محلية تديرها ايران، وبرزت مخاوف من عودة الحرب الأهلية الى اليمن، وتأهبت أوروبا لحماية مصالحها في البحر الأحمر، وتوجس العرب والمسلمون من مشروع ايراني يتوخى التأثير في قرارات الأمة والسيطرة تماماً على بعض عواصمها وتحديداً بيروت.

وأخيراً ثمة أمر آخر لا تعرفه ايران أو تتجاهله على الأقل، وهو أنها الآن في مواجهة قوتين عسكريتين نوويتين هما اسرائيل التي يديرها مجنون يريد أن يدخل التاريخ بصفته “منقذ اليهود” أو “موسى الجديد” هو بنيامين نتنياهو، وأميركا التي يديرها عجوز يسعى الى ولاية ثانية على أكتاف نصر عسكري سواء في أوكرانيا أو الشرق الأوسط، وهو جو بايدن.

وسط هذا المشهد المعقد والمتشابك لا يمكن لايران أن تكتفي بالبيانات المنددة كلما سقط صاروخ على منطقة حليفة، أو سقط مجاهد في عملية ما، ولا بد أيضاً من سؤالين جوهريين: الى متى تعتقد ايران أن اللعب على حافة الهاوية لا يحمل خطر السقوط الى القعر؟ والى متى تبقي ايران جنودها في ثكناتهم وتراهن على معارك تخوضها حتى آخر عربي في الشرق الأوسط؟

حتى الآن، يقول أحد الحانقين المقربين من خط الممانعة: لماذا تلعب ايران دور “السائق” الذي ينقل السلاح الى حلفائه بدل أن تلعب دور “القائد” الذي يتقدمهم نحو الجبهات، اذا أرادت فعلاً ألا تبلغ مرحلة تخسر فيها حليفاً ولا تكسر عدواً؟

ويضيف: لم يعد خفياً أن ايران بدأت تتلمس حتمية المواجهات المباشرة، بعدما أدركت خطورة التلطي خلف متاريس الآخرين، قائلاً: لم يترك الرئيس بايدن أي ستر سياسي أو عسكري للايرانيين عندما كشف أمام العالم “أنهم لا يريدون الحرب مع أميركا”، في محاولة غير بريئة لاقناع الممانعين بأن من يعوّلون عليه ليس الا “ناطوراً يمارس الحراسة عبر النواظير”.

ويختم سائلاً: هل تنتظر ايران اصابة بارجة أميركية بصاروخ حوثي كي تدرك أن النأي بالنفس لا يتمتع دائماً بنفس طويل؟

شارك المقال