واشنطن لن تسلّم لبنان لـ”الحزب”… وهذا ما يجري في الأروقة الديبلوماسية

جورج حايك
جورج حايك

كما كان متوقعاً، تعمل القنوات الديبلوماسية الغربية في الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني الجاري، لتجنّب حرب واسعة النطاق بين اسرائيل و”حزب الله”، ولا شك في أن الديبلوماسية الأميركية تلعب دوراً حاسماً في هذا المجال وخصوصاً مع الاقتراب من الاتفاق على هدنة في قطاع غزة، قد تمتد مفاعيلها إلى جبهة الجنوب اللبناني، ما سيتيح للديبلوماسية أجواء التخفيف من التوتر وإبعاد الكأس المرّة عن لبنان، علماً أن المهلة الزمنية لا تتجاوز الأسبوع وهذا ما أبلغته اسرائيل للولايات المتحدة الأميركية.

حتماً ليست أوراق اللعبة كلّها بين يديّ واشنطن، إذ لا بد من الاعتراف بأن إيران تملك مفاتيح مهمة من خلال نفوذها في المنطقة وتحكّمها بأذرعها العسكرية وخصوصاً “حزب الله” على الصعيد اللبناني. ويلفت صحافي لبناني مقيم في واشنطن ومُطلع على خفايا الحركة الديبلوماسية، الى أن الادارة الأميركية متخوّفة من اندلاع صراع موسّع بين “الحزب” واسرائيل وإيران والولايات المتحدة، ما يُظهر الحاجة إلى التفاوض للتوصّل إلى صفقة مستدامة وقوية وسط دخان المعارك الكثيف.

لذلك، أوفدت واشنطن مبعوثها الرسمي آموس هوكشتاين إلى اسرائيل ولبنان، بعدما إكتسب خبرة في التفاوض على ترسيم الحدود البحرية ونجح في ذلك، وهو يسعى اليوم إلى نزع فتيل الانفجار على الرغم من صعوبة الموقف، ولا يزال يعمل على خط وساطة بين لبنان واسرائيل. ويشير الصحافي اللبناني إلى أن هوكشتاين، على الرغم من أن جولته الأخيرة اصطدمت بعراقيل، لكن اتصالاته بنائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب لم تتوقف في سباق مع الوقت، لأن التهديدات الاسرائيلية تتصاعد سياسياً وميدانياً، واللعب بات على حافة الهاوية. ويؤكد أن أجواء البيت الأبيض تنطلق من نقطتين أساسيتين: الأولى، التوصّل إلى اتفاق حول جبهة الجنوب بضمانات ذات مصداقية من المرجعيتين الكبيرتين أي الولايات المتحدة وإيران. والثانية العمل الجديّ على انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية يمنع تقويض الاتفاق، ويضمن امتثال لبنان و”حزب الله” له. من هنا تأتي حركة اللجنة الخماسية الديناميكية هذا الأسبوع مدعومة من واشنطن إلى حدّ كبير. 

لكن هناك استحالة للتوصّل إلى اتفاق ما لم يكن متوازناً، وبات هذا الأمر ناضجاً في الأروقة الديبلوماسية الأميركية، وفق الصحافي المطلع، بعدما وُضعت الخطوط العريضة لاتفاق محتمل بين إسرائيل و”الحزب”، لا سيما في ضوء الاطار الحالي المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 والذي بموجبه يتعين على “الحزب” سحب بنيته التحتية العسكرية من جنوب الليطاني، مقابل أن تحترم إسرائيل السيادة اللبنانية شمال الخط الأزرق.

مع ذلك، لا تكفي هذه الخطوط العريضة لسريان الاتفاق أو ضمان تنفيذه، لأنه يحتاج إلى قوة على الأرض ذات مصداقية قادرة على فرضه. ويوضح الصحافي اللبناني أن تجربة “اليونيفيل” كانت مخيّبة للآمال وخصوصاً أن “الحزب” انقلب عليها وتمكّن من الحد من حركتها وهيبتها، لذلك يجري البحث عن تعزيز قدراتها بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2650 ليكون دورها مماثلاً لدور قوات SFOR التي عملت في البوسنة والهرسك، وهي عبارة عن قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات بقيادة الناتو تم نشرها هناك بعد حرب البوسنة، علماً أن مهمتها كانت تحقيق الاستقرار عبر ردع الأعمال العدائية وتثبيت السلام والمساهمة في بيئة آمنة. إلا أن السؤال الأساسي: هل يقبل بها “حزب الله” كقوة عسكرية رادعة من دون إحتكاك ومشكلات فيحرّض أهالي الجنوب عليها كما يفعل بقوات “اليونيفيل” اليوم؟

ويعتبر الصحافي اللبناني في واشنطن أن الاتفاق لن يكون متوازناً إلا إذا شعر “الحزب” أن هناك مكاسب معينة يرضي بها بيئته ويروّج أمامها بأنه حقق انتصاراً، وهذا ما تعلمه جيداً القنوات الديبلوماسية الناشطة، كالتزام اسرائيل بإحترام المجال الجوي اللبناني والكف عن خرق سيادته بطائراتها الحربية، إضافة إلى معالجة القضايا الخلافية المتبقية، وعلى وجه التحديد سيطرة إسرائيل المستمرة على الجزء الشمالي من قرية الغجر، والتي يستخدمها “الحزب” في محاولاته المتعددة الأوجه لإضفاء الشرعية على أسلحته. وأخيراً، يترتب على اسرائيل أن تتنازل عن مزارع شبعا، التي تدعي الحكومة اللبنانية أنها جزء من أراضيها السيادية، ولكنها تشكل بموجب القانون الدولي جزءاً من الأراضي السورية، علماً أن رئيس النظام السوري بشار الأسد يرفض إرسال وثيقة مكتوبة إلى الأمم المتحدة تثبت لبنانيتها، وهذا يمكن أن يعقّد الأمور مجدداً ويؤدي إلى عرقلة الاتفاق. أما إذا وُجِد حل لهذه المعضلة، فستطلب الولايات المتحدة من الجانب اللبناني وثيقة رسمية يعلن فيها أنه لم يتبق أي جزء من الأراضي اللبنانية محتلاً ما يضع حداً لأجندة “التحرير” التي يتذرّع بها “الحزب” منذ 24 عاماً.

أمام هذا الواقع، هناك مخاوف من جهات لبنانية معارضة لـ”حزب الله” من إمكان قيام صفقة يتم بموجبها تسليم السياسة الداخلية اللبنانية لـ”الحزب” على نحو كامل، إنطلاقاً من تجربة التسعينيات مع النظام السوري الذي ساهم في حرب الخليج الأولى ضد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وكان الهدف الأميركي إطلاق يد سوريا في لبنان لكبح جماح التمدد الاستراتيجي الايراني فيه، إلا أن ما حصل كان العكس، فتعاون النظام السوري مع إيران وشكّل حماية لـ”الحزب”، بل ساعد على نموّه.

ويرى الصحافي من خلال لقاءاته مع بعض الديبلوماسيين الأميركيين الذين يعملون على خط واشنطن – بيروت أن هذه المخاوف ليست في محلها، لأن الادارة الأميركية تُدرك أن سياسة استرضاء “الحزب” لن تقضي على منافسيه المحليين وحسب، بل ستجعل من لبنان أرضاً للتخطيط لمحور الممانعة الذي يهدف صراحة إلى طرد الولايات المتحدة من المنطقة، ومقراً للارهاب والافلات من العقاب.

من جهة أخرى، لم ينفع فائض القوة لدى “الحزب” لفرض مرشحه الرئاسي سليمان فرنجية، وهذا بسبب توازن القوى النيابية الممثلة للشعب اللبناني. ويلفت الصحافي اللبناني إلى أن الأميركيين يعلمون أن أي إذعان منهم لطموحات “الحزب” سيشكل خيانة صارخة للتطلعات الديموقراطية للشعب اللبناني، وسيسهم بصورة فاعلة في تفاقم المحنة الاجتماعية والاقتصادية، وصنّاع القرار في واشنطن كانوا يراقبون الوضع السياسي في لبنان بين عامي 2011 و2023، ورأوا أن الحكومات اللبنانية، التي سيطر عليها “الحزب” من جهة وبعض السياسيين الفاسدين من جهة أخرى، عملت بمبدأ “السلاح والفساد”، وتواطؤ رؤساء الجمهورية من اميل لحود حتى ميشال عون مع “الحزب” في التحايل على القرار 1701، وهذا ما سيحصل إذا إنتخب رئيس محسوب عليه.

لذلك، لن تتخلى الولايات المتحدة عن لبنان ولن تتساهل في ملف رئاسة الجمهورية، بل ستحرص على تأمين أجواء مناسبة لانتخاب رئيس جدير بالثقة وملتزم بتنفيذ نص أي اتفاق محتمل وروحه، وهذا ما يتركّز عليه عمل اللجنة الخماسية اليوم. والأهم أن يلتزم الرئيس العتيد بصورة ثابتة بسيادة لبنان لضمان منع أي انتهاك للإتفاق في المستقبل يمكن أن يؤدي إلى الحرب.

شارك المقال