بكركي تفتقد رعيتها: أين الموارنة؟

أنطوني جعجع

لنعترف، يقول أحد المغالين الموارنة، بأننا اصبحنا طائفة بلا رأس ولا رعية ولا سلاح ولا حلفاء.

ويتابع: لنعترف بأن بعض شركائنا في الوطن لم يعد ينظر الينا كطائفة قوية تجمع أولادها حين تقرع أجراسها، أو ترهب أعداءها حين ترفع عصاها أو يُحسب حسابها حين يعلو صراخها.

وقد يكون في هذا الانطباع كمٌ كبير من المبالغة، لكنه كمٌ يكفي ليدرك اللبنانيون أن ثمة خللاً بدأ يضرب عميقاً في البنيان الذي قام عليه لبنان الكبير، وفي الصرح الذي أُعطيَ له مجد لبنان، وفي الطائفة التي طالما اعتبرت هذا البلد الصغير “هبة” من الله، أو أمانة في عنقها، أو ملاذاً آمناً لا تطاله شرور أو تبدلات.

والسؤال هنا، ماذا تغير حتى كاد يصبح البطريرك الماروني حيثية عادية لا هيبة له ولا خطوط حمراء، وتصبح الكنيسة المارونية صرحاً عادياً لا يجمع أبناءه في قداس واحد أو مناسبة واحدة أو حتى معركة واحدة، ويصبح الرئيس الماروني مجرد لقب ممجوج أو سلعة يرتفع سعرها في معسكر ويهبط في معسكر آخر؟

في احدى الجلسات مع البطريرك الراحل نصر الله صفير، سألته عن بعض تبايناته مع بعض الأطراف الموارنة، فقال: “مشكلتي معهم أنهم يريدون السير أمامي لا خلفي ولا حتى جنباً الى جنب”.

وسألته أيضاً وماذا بعد؟ فقال: “هل تعرف يا بني أن حب السلطة يخرج من جسد الانسان بعد دقائق عدة من خروج الروح؟”.

في تلك الجلسة كنت أعرف أن من قصدهم البطريرك كانوا من يتقاسمون الشارع المسيحي عسكرياً أي ميشال عون وسمير جعجع، والى حد سياسي ما سليمان فرنجية الذي كان طليع المتطاولين على دور بكركي ومواقف سيدها، الى الحد الذي كاد يحصر دوره بالصلاة وحسب.

وفي قول صفير الكثير من الصحة لكنه جاء في زمن ولى، اذ ان عون نال مبتغاه وتخلى بعد الرئاسة عن جموحه الجارف، وجعجع بعد “الطائف” لم يعد كما كان قبله، وآل الجميل، بعد انحسار “الكتائب” فقدوا الكثير من وزنهم الشعبي في البوتقة المسيحية التي توزعت بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، وفرنجية وجبران باسيل أضاعا الكثير من رصيدهما الشعبي وهما يحاولان عبثاً التوفيق بين رسم اشارة الصليب في بكركي وسماع الأذان في الضاحية الجنوبية.

ومن صفير الى خلفه البطريرك بشارة الراعي، لا شيء تغير على المستوى الماروني العام، في وقت يتجذر كل زعيم ماروني في موقعه ويتحصن خلف أسواره، والشيء الوحيد الذي تغير يكمن في أمرين أساسيين الأول شخصية الراعي والثاني غرور “حزب الله” وعنجهيته.

كان الراعي يعتبر أن صفير بالغ في تعارضه مع السوريين وحلفائهم، وأنه يأخذ المسيحيين الى عزلة قاتلة أو الى مغامرات غير محسوبة، فحاول بعد تربعه على كرسي البطريركية أن يتبنى منحى مختلفاً فافتتح جولاته الانفتاحية على النظام السوري وعلى المناطق الخاضعة في معظمها لسلطة “حزب الله”، معتبراً أنه بذلك يبني مجتمعاً قائماً على شعار “شركة ومحبة”، وانصرف الى جولات خارجية على مسيحيي العراق وتركيا ومصر وسواهم حتى سمّاه أحدهم “البابا الماروني” الذي تلهى بأمور رعايا هم في الأساس من مسؤولية الفاتيكان وليس من مسؤوليته.

فعل الراعي كل ذلك في وقت كانت رعيته تعاني التهميش في صنع القرار وفي مواقع القرار، وتعاني “الشدة” في معاهد الرهبان ومشافيهم ومؤسساتهم، من دون أن يجلب لها أي مكاسب يعتد بها لا من بشار الأسد ولا من حسن نصر الله.

وسواء كان كل ذلك نتيجة الاستراتيجية الخاطئة أو البريئة التي اتخذها الراعي لمسيرته الكنسية أم لا، فقد وجدت بكركي نفسها بعد سنوات بين شعب محبط يبحث عن أي تاشيرة سفر الى أي اتجاه مفتوح، وبين محور يقوده “حزب الله” ويبتلع لبنان وجزءاً كبيراً من مناطقه المسيحية سواء بالترغيب أو بالترهيب، ويفرض نفسه دَّياناً لكل خطوة عكسية من بكركي ولكل موقف اعتراضي من سيدها.

لكن أكثر ما يثير دهشة المراقبين المحليين والدوليين، ممن لا يزالون يعتبرون أنفسهم من أبناء الله لا العلمانية، هو صمت الرعية حيال ما يتعرض له البطريرك الراعي من تهميش وتهشيم، وصمت الزعماء الموارنة الذين يراقبون ما يجري من المسافات البعيدة أو من خلف الكواليس متخذين “دور من لا يرى ولا يسمع”، أو دور من يتحاشى الدخول في معركة تخربط ما يتطلع اليه من طموحات سياسية أو تحالفات داخلية وخارجية.

ويتفق هؤلاء على أنها المرة الأولى في تاريخ لبنان القديم والحديث، يقف الموارنة على حياد غريب في ما يتعلق بهيبة بكركي وكنيستهم، مؤكدين أن لبنان سقط في قبضة “حزب الله” عندما اعتكف السنة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعندما تعامل الموارنة مع “لبنان الطائف” على أنه لبنان الذي لا يشبههم الا في ما ندر.

ويذهب مسؤول ماروني مخضرم بعيداً الى حد القول: ان الموارنة سقطوا على ثلاث مراحل متتالية، الأولى عندما انتهت المارونية السياسية كنظام وسلطة، ثم عندما غرقوا في حرب الالغاء كعسكر وساسة، وأيضاً عندما تخلوا عن سلاحهم وراهنوا على دولة ضعيفة ومرتهنة.

وسقطوا في مرحلة ثانية، عندما تخلى عنهم الغرب كأقلية مؤثرة لمصلحة غالبية اعتقد أن الرهان عليها يمكن أن يحفظ مصالحه الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية.

وسقطوا في المرحلة الثالثة عندما أصبح كل قائد للجيش مشروع رئيس حتمياً، وأصبح كل كاهن مشروع مطران أو بطريرك أو كاردينال، وأصبح كل زعيم نسخة عن بشير الجميل في مكان، وكميل شمعون في مكان آخر.

وأضاف: لا تنتظروا من الراعي أن يتحول الى يوحنا مارون الجديد بعدما أهملت الكنيسة رعيتها وأسهمت في قهرها مادياً واجتماعياً، وبعدما تأخر كثيراً في رفع صوته وعصاه .

وتابع: لا تنتظروا من عون أو جعجع أو سواهما أن يسمحا بتفوق بكركي شعبياً على الرابية أو معراب، ولا تنتظروا من “حزب الله” أن يسمح بعودة الكنيسة المارونية الى مواقع القوة والنفوذ أو الى أي موقع ينافس قم أو أئمة ايران بأي شكل من الأشكال، أو بوصول أي رئيس ماروني الى بعبدا، أو أي قائد الى اليرزة، أو أي حاكم الى “المركزي” لا يكون من اختياره أو في أسوأ الأحوال من طائعيه أو خائفيه.

وأردف أن على الراعي الاختيار بين أمرين: اما اقفال أبواب بكركي أمام الزعماء الموارنة ما داموا يغنون كل على ليلاه، وما داموا يؤمون الصرح اما للوصول الى بعبدا واما طلباً لمظلة معنوية ورعوية في أيام الضيق والخوف، أو اقفالها أمام المتطاولين على شخصه ونهجه وموقعه وجبته.

وأضاف: ان المطلوب الآن ليس الصلاة ولا الترفع بل المواقف الموحدة التي تعيد الى هذا الموقع هيبته وتأثيره، والا فليحج الموارنة بعضهم الى الرابية ومعراب وبعضهم الآخر الى بكفيا وبنشعي، ومن تبقى منهم الى الضاحية الجنوبية ولتتحول بكركي الى محبسة لا يخرج رهبانها الى الشمس أبداً.

وتابع: ان الفارق بين صفير والراعي أن الأول تعرض للاهانة الجسدية في زمن الحرب، ويتعرض الثاني للاهانة المعنوية في زمن “السلام”، فلا وجد الأول من يحميه، ولا يجد الثاني من ينصره، قائلاً: انه الزمن الرديء بالنسبة الى بكركي بكل فصوله وتفاصيله، والزمن الذي يمكن، في حال استمراره، أن ينتقل بعد ١٦٠٠ سنة من استقبال أول الموارنة الى يوم قد نشهد فيه وقوف الكهنة والرهبان والساسة على الشواطئ لوداع آخر ماروني في لبنان.

شارك المقال