مناورة حريريّة بالذخيرة الشعبيّة الحيّة!

جورج حايك
جورج حايك

بعيداً من المشهد السنيّ الحاشد الذي ترافق مع ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، واستذكار اللبنانيين عموماً لحضوره وإنجازاته ومكانته الكبيرة كشخصية وطنية وعربية تاريخية لا تُنسى، لا بد من التوقّف أمام معاني المواكبة السياسية والشعبية والاعلامية لحضور الرئيس سعد الحريري في لبنان، خاطفاً الأضواء من كل الأحداث المحلية على الرغم من سخونة الوضع الجنوبي والمواجهات بين اسرائيل و”حزب الله”، إلى درجة أن كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله مرّت مرور الكرام في ظلّ الحدث المحوري الذي لم يكن له سوى عنوان واحد: سعد الحريري!

لا شك في أن دلالات حضور الحريري وسط هذا الزخم الشعبي السنيّ ليست تفصيلاً صغيراً، فما جرى كان أشبه بمناورة حريريّة بالذخيرة الشعبيّة الحية، برهن فيها أن تيار “المستقبل” على الرغم من تعليق العمل السياسي لا يزال حياً، ولو غاب عن النشاطات السياسية الكبيرة طوال هذه الفترة، إلا أن الحريري وأبرز مسؤولي “المستقبل” لا يزالون الأكثر تمثيلاً في الشارع السني. ويوضح النائب بلال الحشيمي أنه بلا أدنى شك أن الحريري شخصيّة سنيّة لها حضورها الكبير على الصعيد الوطني ولدى كل الطوائف في لبنان، وحضوره إلى لبنان في ذكرى والده الشهيد رفيق الحريري أعطى زخماً كبيراً للبنان.

من المؤكّد أن استقبال الوسط السنّي الوجداني الكثيف للحريري كان مقصوداً، فالمظاهر الشعبية التي واكبته بدت أشبه بإستعراض قوة، وقد اختصرها بكلمات معدودة “قولوا للكل انكن رجعتو عالساحة، ومن دونكن ما في بلد ماشي”، وهذه رسالة للداخل والخارج، بأن السنّة ليسوا متروكين، ولا يريدون إلا الحريري زعيماً لهم. وقد استقبلت المراجع السنيّة الكبيرة وفي مقدمها المفتي عبد اللطيف دريان الحريري بعاطفة وحماسة لافتتين، ولاقى تشجيعاً منه للعودة إلى لبنان وخوض العمل السياسي مجدداً. حتماً ارتاح الحريري لهذا المشهد واطمأن إلى أنه متى قرر العودة ستكون لديه قاعدة شعبية كبيرة من أعلى الهرم السنيّ إلى أسفله.

ويلفت الحشيمي إلى أن الحريري يتمتع بشعبية كبيرة وهو شخصية مميزة وإبن الشهيد رفيق الحريري، لكن هناك شخصيات سنيّة لها تمثيلها أيضاً حاولت قدر المستطاع أن تحافظ على البيئة السنيّة ووجودها في هذه المرحلة.

من جهة أخرى، تضمنت المناورة الحريرية أيضاً رسالة سياسية بأنه لا يزال الأكثر قدرة على التواصل مع الحلفاء والخصوم، وقد استقبل طوال أسبوع أكثرية القوى السياسية، التي أجمعت، على الرغم من تناقضاتها وخلافاتها، على أهمية الدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه الحريري مستقبلاً، وخصوصاً على صعيد الشراكة والتوازن الوطني. ويشير الحشيمي إلى أن بعض الفرقاء الذين استقبلهم ورحبّوا بعودته طعنه في الظهر، لقد حاول طوال 15 عاماً أن يبني لبنان الحديث وصوّب البوصلة نحو لبنان أولاً، إلا أن قوى الممانعة عرقلت مهمته بل أرادت أن يبقى لبنان مستباحاً للخارج، لذا اعتقد أنه إذا قرر العودة الآن سيتآمرون عليه مجدداً وسيطعنونه في ظهره بالمعنى السياسي.

في المقابل، بات واضحاً ان حضور الحريري في 14 شباط 2024 ليس موعداً لعودته النهائية إلى الحياة السياسية، إذ غالباً ما كرر “أن كل شي بوقته حلو”، فوضع الأمور في نصابها الحقيقي أي احياء ذكرى استشهاد والده لا أكثر ولا أقل، بنكهة شعبية وصلت إلى الحد الأقصى، ويمكن استثمارها في المستقبل عندما تكتمل معطيات التسوية القادمة إلى لبنان. فالحريري يُدرك أن عودته إلى لبنان لم يحن وقتها بعد، وسط الظروف الاقليمية التي تمر فيها المنطقة والحرب على الجبهة الجنوبية، واستمرار “حزب الله” في سلبيته وأدائه التدميري لمقوّمات الدولة اللبنانية.

ولا يختلف اثنان على أن الحريري رجل مال واقتصاد وعمران وليس رجل مواجهات وحروب، بل لا يستسيغ العيش في ظل حياة سياسية متوترة، تقوم على الكيديّة وتسجيل النقاط، لذا أبدى استعداده أمام كل من التقاهم لأن يكون حاضراً للعودة متى توافرت نوايا بالتغيير نحو الاستقرار وإرادات طيبة لبناء الدولة والانطلاق إلى إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي يؤمّن الازدهار والبحبوحة للبنان، ما يعني أنه لن يعود إلا في أجواء مشابهة للظروف التي تسلّم فيها والده الحكومة بعد اتفاق الطائف في مطلع التسعينيات، حين بدأ مسيرة البناء والإعمار والتقدّم.

يرى الحشيمي هذا الكلام منطقياً إلا أنه يؤكد أن القرار السني اليوم تبقى مرجعيته المملكة العربية السعودية، وليس واضحاً أن هناك علامات تسوية في الأفق، وهناك من يعرقل حتى اليوم انتخاب رئيس للجمهورية، والرئيس الحريري خاض هذه التجربة سابقاً ومشى بتسوية بعدما فرض “حزب الله” انتخاب ميشال عون، فماذا كانت النتيجة؟ إنهار البلد!

ويعتبر الحشيمي أن الحريري جرّب كل شيء في لبنان من حوارات ومفاوضات وتسويات مع الفريق الآخر، إلا أن الأخير لم يلتزم بشيء، وذهبت كل الأمور هباء منثوراً. ولنفترض أنه قرر العودة الآن، فهو أصلاً لم يرد خوض الانتخابات النيابية على الرغم من أن المفتي دريان نصحه بذلك آنذاك، ألا يحتاج إلى أرضيّة نيابية سنيّة تواكبه وتساعده على تمرير المشاريع الانمائية النهضوية؟ عندما سيتّخذ قرار العودة سيستعين بهؤلاء النواب الذين يمثّلون بيئته، وهو لم يلتقِ إلا القليل منهم خلال حضوره في هذه الأيام القليلة التي يمضيها هنا.

من الواضح أن حضور الحريري شهد مواكبة إعلامية عربية كبيرة، إلا أن مقابلته عبر قناة “العربية” السعودية بدت لافتة جداً، وقرأ فيها البعض نوعاً من الانفتاح السعودي المتجدد على الحريري، مع ذلك، لا يمكن الذهاب بعيداً في التكهنات، لأن ساعة عودته لم تأتِ بعد، وعندما يحسم أمره، تؤكّد مصادر مطلعة على النهج السياسي السعودي، أنه سيبدأ زيارة للقيادة السعودية قبل عودته إلى لبنان، ولا بد من أن يلتقي عندها نواباً لبنانيين سنّة “محسوبين” على السعودية، لذا قد تقصر أو تطول إقامة الحريري في أبو ظبي، بإنتظار تغيّر المشهد السياسي.

لكن لا يمكن إلا الإعتراف بأن سعد الحريري شخصية سياسية محبوبة من السُنّة خصوصاً ومقدّرة من اللبنانيين عموماً، وقد ظُلِمَ كثيراً وإذا قرر العودة يوماً فعليه أن يحرص على وضع خطوط حمر أمام كل من يريد أن يؤذيه أو أن يسيء إلى علاقته بالحلفاء.

شارك المقال