بروفة لتعديل “الطائف” في بكركي… والتحديات أكبر!

جورج حايك
جورج حايك

لم تستضف البطريركية المارونية في بكركي مؤتمراً للبحث في وثيقة “رؤية جديدة للبنان الغد” من باب الترف السياسي، إذ تُطرح أفكار كثيرة على البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ليكون راعياً لها، إلا أن كثيراً من هذه الأفكار لا ينسجم مع ثوابت بكركي ومبادئها، أما الوثيقة التي طرحها رئيس “لقاء الهوية والسيادة” الوزير السابق يوسف سلامة، فوجد فيها الراعي مادة خصبة للحوار يُمكن الإنطلاق منها للبحث في ما يعتري اتفاق الطائف من شوائب وثغرات، مع التأكيد على ضرورة تطبيق ما لم يُطبّق من “الطائف” حتى اليوم.

طبعاً شاركت أكثرية القوى السياسية والطوائف اللبنانية الأساسية في هذا اللقاء، وتؤكد أوساط مطلعة على أجواء المؤتمر أن الوثيقة المعدّة قُدمت بموازاة ذلك إلى الفاتيكان بواسطة رئيس لجنة الحكماء في “لقاء الهوية والسيادة” الدكتور محمد السماك، وهذا يعني أن المؤتمر تمتع بغطاء كنسي يبحث عن أطر للمحافظة على المسيحيين في لبنان والشرق.

لكن بعيداً عن الأفكار العامة والثوابت الأساسية المتداولة في المؤتمر، وهي ضرورة المحافظة على الميثاق الوطني وتطوير “الطائف”، وهذا ما أجمعت عليه كل القوى السياسية، ترى الأوساط “أن خلفية طرح سلامة له بُعدان: الأول أنه ماروني، دخل الحكومة سابقاً بطلب من بكركي، وبالتالي يجد الآن أن التوقيت مناسب ليطرح هذه الوثيقة، فيضع نفسه في السباق الرئاسي، ويصبح مطروحاً من بين الأسماء المتداولة. أما البُعد الثاني فيتعلق بوضع سلامة نفسه واللقاء الذي يرأسه على خط المطالب المسيحيّة التي يعلو صوتها هذه الأيام لتغيير النظام أو تطويره وطروح اللامركزية الموسّعة والفديرالية”.

بإختصار، تُعبّر الوثيقة عن طموح شخصيّ لسلامة لرئاسة الجمهورية وامتلاكه مشروعاً سياسياً أعلنه في المؤتمر الذي استضافته بكركي.

لكن بعيداً عن طموحات سلامة الرئاسية، تؤكّد الأوساط “أن النقاشات أظهرت هوّة بين المسلمين والمسيحيين في الرؤية السياسية للوطن اللبناني ولا سيما بين الشيعية السياسية من جهة والمسيحيين من جهة أخرى، وهذا لم يعد سراً، وقد شهد المؤتمر نقاشات حادة وصريحة في هذا المجال، تخللها سجال بين ممثل الطائفة الشيعية وممثل أحد الأحزاب المسيحية”.

من الواضح أن الأزمة التي نعيشها يومياً نتيجة إنخراط “حزب الله” في حرب غزة وتوريطه للبنان فيها، أرخت بثقلها على المؤتمر، فيما كان إتجاه البطريرك و”لقاء الهوية والسيادة” أن تكون الوثيقة طرحاً رؤيوياً يتخطى الصعوبات والتعقيدات والمشكلات اليومية، بل طريق سلمي تدريجي للتغيير والتطوير.

وتكشف الأوساط “أن هذه الوثيقة بدت ترفاً في هذه اللحظة السياسية المتأزمة التي يعيشها لبنان وهي تُهددّ كيانه واستمراريته، والأسئلة التي طرحها البعض وهي مشروعة: كيف نتكلّم عن إلغاء الطائفية السياسية وتأسيس مجلس شيوخ، وتعديل الدوائر الانتخابية، وهناك حزب مسلح يفرض كل ما يريده بالقوة ويصادر القرار الرسمي للدولة اللبنانية ويُعطّل انتخاب رئيس للجمهورية؟”.

ولم تثر العناوين المطروحة في ما يتعلّق بتطوير النظام، وفق الأوساط المطّلعة، اعتراضات كبيرة كمفهوم الدولة المدنية واللامركزية وإلغاء الطائفية السياسية، وتأسيس مجلس شيوخ، وتعديل الدوائر الانتخابية بهدف تعزيز التمثيل الوطني وحماية التنوع اللبناني، كما لاقى بعض البنود التي تنظّم العمل الدستوري استحساناً كتحديد دعوة رئيس الجمهورية للاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس للحكومة ضمن مهلة محددة، كذلك تحديد مهلة تشكيل حكومة، ويتم تقديم التشكيلة الحكومية الى مجلس الشيوخ ومجلس النواب لحيازة موافقتهما، ما يجبر رئيس الجمهورية على توقيعها.

لكن ليس خافياً على أحد أن المشكلة بالنسبة إلى المسيحيين اليوم ليست كل هذه النقاط، على الرغم من أهميتها، إنما استئثار “حزب الله” بقرار الدولة وهيمنته عليها، وإقصاء المسيحيين عنها، والمشكلة الأساسية تكمن في سلاح “الحزب” وممارسة فائض القوة، وهذا ما لفتت إليه الأوساط التي لاحظت التشنّج الماروني- الشيعي في المؤتمر، بحيث بات المسيحيون مقتنعين بأن التحدي الأكبر اليوم يتمثّل في وضعيّة “الحزب” على مستوى الدولة لا إنتخاب رئيس من الشعب أو الغاء المذهبية في الرئاسات، فهناك من يعطّل الدستور لفرض إرادته على كل اللبنانيين.

وتشير الأوساط المطلّعة إلى أن هذا الأمر لم يستطع أحد اخفاءه من الحوارات تحت سقف بكركي، وخصوصاً عند الكلام عن الحياد وعدم إقحام لبنان في صراعات المنطقة، فتجاوز الكلام العتب والملامة بين ممثلي الشيعة والمسيحيين، وتبيّن أن هناك تباعداً في الرؤى والمقاربات لمواضيع يفترض أنها مسلّمات وطنية.

لا شك في أن البطريرك الراعي لا يوفّر جهداً لإقتناص أي فرصة أو فُسحة حوارية للخروج من المأزق، لكن الوقت الذي نعيشه اليوم حسّاس جداً، ولا يحتمل البحث في أمور ثانوية، بل المطلوب طرح إشكالية “حزب الله” بصراحة ومن دون مواربة ثم الذهاب إلى معالجة ثغرات النظام، وإلا سيبقى لبنان مخطوفاً، والراعي نفسه أطلق صرخة محقة في عظة الأحد الفائت قائلاً: “نحن في لبنان يجب ألّا ينزلق أحدٌ بوطننا إلى الحرب والقتل والدمار والتهجير والتشريد، من دون فائدة، ولقضايا لا دخل للبنانيّين عامّة بها ولأهلنا في الجنوب اللبنانيّ”.

في المقابل، لا يبدو “حزب الله” معنياً بكل هذا الحراك السياسي، فهو ينتظر التسوية والمكاسب التي ستحققها مرجعيته الايرانية اقليمياً والثمار التي ستُقدّم اليه لبنانياً، لذلك يجب أن تحصر بكركي والقوى السياسية الحيّة اهتمامها بمواجهة أي صفقة على حساب لبنان!

شارك المقال