مسيحيو لبنان إلى أين؟

صلاح تقي الدين

لم يعد العنوان مجرد شعار يرفعه قادة المسيحيين في لبنان خصوصاً بعدما أكّدت أحدث إحصائيات عدد السكان في لبنان أن مجمل عدد المسيحيين المقيمين فيه كما لوائح الشطب الانتخابية لدى معظم الأحزاب بما فيها الأحزاب “المسيحية” لا يتعدى نسبة 19% وباعتراف مباشر من رئيس الكنيسة المارونية البطريرك بشارة الراعي.

منذ إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920 والمسيحيون كانوا يتمتعون بامتيازات منحت لهم على اعتبارهم “آباء” الفكرة اللبنانية والساهرين على إنشاء الدولة ولذا أعطيت لهم امتيازات لم تكن متوافرة لمكونات لبنان الطائفية الأخرى، فكانت لهم رئاسة الجمهورية ثم بعد الاستقلال أضيفت إليهم رئاسة قطاعات أخرى حيوية سمحت لهم بالتحكم في إدارة البلد بطريقة أطلق عليها لاحقاً لقب “المارونية السياسية”.

غير أن “سوء التقدير” الذي ميّز إدارتهم للبلاد وخياراتهم السياسية الخارجية كما الداخلية الخاطئة والتي توّجت “بخسارتهم” حروباً داخلية من حرب الجبل إلى “حرب الأخوة” دفعتهم إلى الرضوخ “للارادات” الخارجية التي أنتجت اتفاق الطائف والذي بدأت معه مرحلة “تقليص” نفوذهم في الحكم، وزادها سوءاً قرارهم الخاطئ جداً بمقاطعة أول انتخابات نيابية بعد الطائف ما دفعهم فعلياً إلى خارج “الدولة”.

ومع صمت المدافع ونزع سلاح الميليشيات باستثناء “حزب الله” بدأ فعلياً الميزان الديموغرافي ينقلب ضد المسيحيين بحيث أصبحوا يشكلون أقلية بين الأقليات لأسباب تتقدمها هجرة الشباب واستمرار ابتعادهم عن الوظيفة العامة، وبدأت أصوات “مسيحية” تحديداً تعلو مطالبة حيناً بالفديرالية وأحياناً بلامركزية موسعة واندفاع البعض باتجاه “الحلم” المستحيل الذي لطالما راودهم وهو تقسيم البلد.

وأمام هذا الواقع، برز إلى العلن ما سمي اجتماع بكركي الذي رعاه البطريرك الراعي وانبثقت عنه “وثيقة بكركي” التي حملت عنوان “المسيحيون في لبنان إلى أين؟”، لكنها بيّنت مدى الخلاف العميق بين أقطاب الموارنة تحديداً من خلال مقاطعة تيار “المردة” الذي يرأسه المرشح الرئاسي الدائم الوزير السابق سليمان فرنجية، ما يطرح حقيقة السؤال: هل ما زال المسيحيون مؤمنين بجدوى دولة لبنان الكبير؟

وحول الوضع السياسي القائم من النظام إلى اتفاق الطائف، لا يتوانى فرنجية عن التشديد على موقفه الذي لخّصه بالقول: “أنا مع اتفاق الطائف وأي حديث عن وجود ثغرات يُعالج بالتوافق، ونتمنى أن نصل الى رؤية وطنية شاملة من ضمنها السياسة الخارجية والدفاعية والعمل على استعادة هيبة الدولة وإصلاح الاقتصاد وإحترام القوانين”.

وجدّد فرنجية رفضه لكل أشكال التقسيم، واعتبر أن “كل حديث عن تقسيم أو فدرلة إنما هو حديث شعبوي، فهذا البلد لا يكون إلا واحداً، والمشروع الوطني هو الرابح الأكبر وكل انعزالي، مسيحياً كان أم مسلماً غير جدير بالمسؤولية”.

غير أن مرجعية سياسية تعتبر أن موقف فرنجية قد يكون نابعاً من كونه يمثل مسيحيي المناطق إذ إن زعامته “شمالية”، لكن المرجعية أكّدت على “وطنية” فرنجية وأن أحلام بعض المسيحيين بالفدرلة أو التقسيم قد يكون أحد ضحاياها المباشرين مسيحيو المناطق.

أما بالنسبة الى رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، فيعزو سبب هذه الأصوات إلى الشعبوية التي لا تفيد، مشيراً إلى أن “الوثيقة التي تحضر في بكركي مهمة، ولكنها لن تكون كافية إذا لم تكن مرفقة بخطة عمل أو خطة مواجهة لعملية الاقصاء التي تحصل بصورة واضحة وممنهجة ومبرمجة”.

لكن الاقصاء الذي يتحدث عنه باسيل، هو في الحقيقة تراجع إيمان المسيحيين بجدوى الانخراط في الادارة العامة لأسباب تبدأ بالاقتصادية ولا تنتهي عند حدود المحاصصة التي قد تكون من حظ الأشخاص الأقل كفاءة على حساب غير “المدعومين”.

لكن بالنسبة الى باسيل فإن “لبنان دولة موحدة من الأساس، ومشكلة تطبيق الفديرالية في لبنان هي أننا نحتاج الى أن تكون مقبولة من الجميع هذا في البداية، كذلك هناك المشكلة الجغرافية، ونحن نعتبر أن الغنى هو أن المسيحيين منتشرون في كلّ مكان ويتعايشون مع الجميع فهل نخسر هذه الميزة ليكونوا في بقعة جغرافية واحدة؟”.

و”تشتم” المرجعية السياسية من كلام باسيل أنه إذا استطاع المسيحيون إقناع المسلمين بجدوى الفديرالية أو اللامركزية الموسعة، فلا مانع لديه من تعديل النظام ليتماشى مع الواقع القائم، والمنادي بالتغيير.

لكن وحده رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع كان حازماً بشأن التمسك بلبنان الكبير، إذ أكّد أن “المسيحيين لا يفكرون بوطن بديل لهم غير لبنان الذي هو وطنهم النهائي”، لكنه أشار في المقابل إلى التمسّك بـ”لبنان الكبير طبعاً، ولكن ليس تركيبة الدولة”.

وعن طرح الفديرالية، اعتبر جعجع أن “حزب الله يطبق الفديرالية. فلنطبقها في كل لبنان أو فلنلتزم الدستور. أمور الناس مش ماشية، فلنتحاور لتسيير أمورهم، والتركيبة اللبنانية تحتاج إلى إعادة نظر لتستقيم الأمور، ولكن قبل البحث عن التركيبة علينا إجراء إنتخابات رئاسية”.

وحدها البطريركية المارونية ترفض أي شكل من أشكال التقسيم أو الفدرلة علناً وبوضوح غير ملتبس. ولطالما كان هذا الموضوع مثار رفض البطريرك الراعي في عظاته الأسبوعية لكن من دون إغفال أهمية التوافق بين اللبنانيين على تعديل ما ثبت من خلال الممارسة “ثغرات” في اتفاق الطائف.

السؤال مشروع ولم يعد باطنياً بل خرج إلى العلن والأصوات المروّجة لمشروع الفدرلة أو حتى التقسيم إنما تصرّح علناً بما يخشى البعض البوح به، لكن الحقيقة الثابتة هي أن استمرار “فائض القوة” الذي يمارسه فريق من اللبنانيين ضد الآخرين يجعل من مسألة “لكم لبنانكم ولي لبناني” مادة جدلية جديدة قد تفتح أبواب جهنم أمام اللبنانيين الذين لم ينسوا بعد مآسي الماضي القريب.

شارك المقال