“مغلوب” في الجنوب … “غالب” في بعبدا!

أنطوني جعجع

من مفارقات الحرب الدائرة في غزة والجنوب، أن الخطاب العسكري في تيار الممانعة انتقل من مقولة “تحرير القدس ورمي اسرائيل في البحر”، الى مقولة في تيار اليمين الاسرائيلي تدعو الى “القضاء على حركة حماس وملاحقة حزب الله في كل مكان”.

وانطلاقاً من هذا الواقع لم يعد سراً أن “حزب الله” ليس في أفضل أحواله، سواء عسكرياً أو سياسياً أو شعبياً، شأنه شأن “حماس” المحاصرة في أنفاق رفح، وشأن ايران التي أسست محوراً عقائدياً لا تستطيع توسيعه جغرافياً أو تسويقه اسلامياً أو تكريسه استراتيجياً.

وفي قراءة متأنية لما يعانيه “حزب الله” بعد “الثامن من أكتوبر”، قد يظن المرء أنه يقرأ عن حزب آخر ومسار آخر وسيد آخر، أو أن زلزالاً وقع فجأة وقلب الضاحية الجنوبية رأساً على عقب، أو أن اعصاراً نقل “المقاومة الاسلامية” من مكان كانت تسود فيه من باب القوة الى مكان تسود فيه من باب المكابرة.

وليس سراً في هذا السياق أن “حزب الله” في حال صدمة لم يفق منها بعد، معترفاً في كواليسه بأن الحسابات التي راهن عليها بعد “طوفان الأقصى” كانت دون الكمائن التي أعدتها اسرائيل بعد “حرب تموز”، وأن الخطاب الذي تسلح به طويلاً لتبرير سلاحه وهيمنته العسكرية لم يكن ذا مصداقية كافية لا وسط بيئته ولا وسط حلفائه، وأن “الفوقية” التي مارسها حسن نصرالله في مقاربة الأمور وترتيبها لم تكن الا خطاباً شعبوياً يهدف الى ترهيب خصومه وترغيب رجاله وحسب.

ويقول مصدر قريب من الضاحية: ان “حزب الله” انتقل من شعار “الدفاع عن كرامة لبنان وسيادته” الى وضعية الدفاع عن كرامته الشخصية من جهة ومناطق نفوذه من جهة ثانية، بحيث تحول من تيار يصنع المبررات الى تيار يحتاج اليها، ومن حزب يفرض الحاجة الى سلاحه الى حزب يحتاج الى تبرير هذه الحاجة بعدما دخل في معركة عبثية كشفت أنه لا يحظى بتوازن القوى أو توازن الرعب اللذين طالما لوح بهما، ولا يملك القدرة الحقيقية على تحرير الأرض أو إنقاذ غزة أو تطويع اسرائيل أو تعزيز ايران.

ويضيف المصدر: ان “حزب الله”، وحتى في “حرب تموز”، لم يشعر بأن كل عنصر من عناصره من أدناهم رتبة الى أعلاها هم في مرمى اسرائيل من بيروت الى دمشق، وأن خروج أحدهم من منزله أو مقره أو مربضه بات مشواراً نحو موت محتم أو خطر محدق، مشيراً الى أن أجواء لبنان باتت مرصداً تقنياً متطوراً يكاد لا يخطئ في اختياراته واصاباته.

ويذهب المصدر بعيداً الى حد القول: إن حسن نصر الله الذي كان يجيد مهام التبرير والتوضيح والتسويق لم يعد يملك في جعبته الخطابية ما يطل به على الناس بخطاب يعلن فيه “نصراً الهياً” أو حتى “نصراً بشرياً” يهدئ به بيئته التي وعدها بالانتصارات المبينة والدائمة، لتجد نفسها على أطلال آلاف المنازل والمؤسسات والحقول، وفي خضم نزوح لا يجد الكثير ممن يبدو مستعداً لاحتوائه أو احتضانه كما كانت الحال في العام ٢٠٠٦، وفي ظل مساءلات لم يكن أحد يجرؤ على طرحها من قبل، ووسط خسائر بشرية تكاد تحول كل منزل شيعي اما الى منزل شهيد أو منزل معاق أو يتيم أو أرملة.

لا ينكر المصدر أن الخطأ الذي وقع فيه “حزب الله”، أنه كان يتخذ من تحرير الأرض ذريعة يتوخى من خلالها السيطرة على لبنان، وأن إسرائيل كانت تتخذ من خطره ذريعة لتحويل لبنان اما الى أرض محروقة واما الى جار مقلوم الأظافر والأنياب.

وربما يكون في هذا العرض بعض المبالغة، لكن فيه أيضاً الكثير من الحقائق التي لا يستطيع أحد انكارها، وهي حقائق تدفع “حزب الله” الى البحث عن أي طريقة لوقف اطلاق النار، والحؤول دون مزيد من الخسائر والاكتفاء بما فقده حتى الآن، لا سيما بعدما تأكد من أن الحكومة الاسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو لن توقف القتال حتى لو تألب العالم كله ضدها، وأن حركة “حماس” لم تعد قادرة على الصمود ومنح محور الممانعة ترف الرهان على الوقت، وأن ايران، الخائفة على منشآتها النووية وموقعها الاقليمي، لن تتدخل لا لانقاذ يحيى السنوار ولا لنصرة “حزب الله” في أي مواجهة يخرق بها الخطوط الحمر المرسومة بدقة من طرف واحد، وهو الطرف الممانع حصراً.

وربما أن هذه الحال المأزومة هي التي تقف وراء العدائية التي يبديها “حزب الله” في الداخل تماماً كما حدث في رميش الحدودية، معتبراً كل من يعترض على مغامرته العسكرية في الجنوب، عميلاً وكل من لا يؤمن بمساره العقائدي مرتداً أو كافراً.

ويجمع المراقبون في هذا المجال على أن العصبية التي تصبغ “الحزب”، تنبع من ٣ أمور أساسية: الأول أن الهالة التي كان يتغنى بها قد تعرضت لشرخ عميق، والثاني أنه لم يتمكن هذه المرة من جر اللبنانيين الى معركة لا يريدونها في المطلق، والثالث أن أي حل يؤدي الى هدنة ما سيكون بمثابة الهزيمة غير المعلنة، مؤكدين أن حسن نصر الله بات يعرف هذه المرة أنه لن يستطيع بعد اليوم المرابطة على الخط الأزرق، وأن تراجعه نحو شمال الليطاني، من دون اجتياح اسرائيلي، لن يكون الا اشارة الانطلاق نحو استراتيجبة دفاعية جديدة تطعن في جدوى سلاحه وتمنح الضوء الأخضر لمنظومة أمنية جديدة يكون الجيش قائدها وليس مجرد شرطي أو وسيط أو ساعي بريد.

وانطلاقاً من هذا المشهد القاتم لم يعد في جعبة “حزب الله” الا أن يكون أكثر اصراراً على رفض التوافق الرئاسي في الداخل، وعلى انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، لأن ذلك يمثل السلاح الأخير الذي يملكه في السياسة بعدما فقده في الميدان، وأن حسن نصر الله يخطط في حال العودة، “مغلوباً” من الجنوب للدخول غالباً الى قصر بعبدا.

انه التاريخ الذي يعيد نفسه، والتجربة التي يحاول “الممانعون” تكرارها، أي الهرب من مشهد قد يكون فيه دونالد ترامب سيداً في البيت الأبيض وقد لا يكون “حامي الظهر” سيداً في بعبدا.

شارك المقال