ما بعد حرب الجنوب غير ما قبلها… والآتي أعظم!

جورج حايك
جورج حايك

كل المكوّنات اللبنانية الأساسية، على تنوّعها، مقتنعة اليوم بأن لا صوت يعلو فوق صوت الحرب في الجنوب اللبناني، على الرغم من أن بعض هذه المكوّنات، ولا سيما في المعارضة اللبنانية، يعلم أنه كان بإمكان “حزب الله” تجنّب الحرب والالتزام بالقرارات الدولية، لا اختراع معادلات جديدة كجبهات المشاغلة والإسناد التي قد تخرج عن الضوابط المتعارف عليها، في أي ساعة، نتيجة حسابات اسرائيلية أو ايرانية، فتجرّ لبنان إلى كارثة تدميرية، علماً أنه لا يمكن للبلد الذي يتخبط في أزمة مالية واقتصادية أن يتحمّلها أصلاً.

لكن الأنظار تتجه إلى مرحلة ما بعد الحرب، ومواقف رئيس حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب اللبنانية” سمير جعجع وسامي الجميل، تؤكّد هذا الأمر، بحيث يكرران أن عدداً كبيراً من اللبنانيين يرفض العيش بهذه الطريقة، وعندما تنتهي الحرب يجب التشاور مع “الحزب” للتأكد مما إذا كان لديه استعداد لبناء دولة حقيقية وإلا هناك حلول أخرى تبدأ بتغيير التركيبة السياسية وصولاً إلى تطوير النظام والفديرالية وتسليم “الحزب” سلاحه الى لدولة.

طبعاً هذا الكلام لا يعجب المسؤولين عن “الحزب”، فهو يقتات من الدولة المهترئة ويستمد ديمومته من الفوضى، ولا يناسبه أي كلام عن تسليم السلاح وتطوير النظام أو الفديرالية، إلا أن حالة الغضب التي تعمّ بعض المجتمعات اللبنانية ولا سيما المجتمع المسيحي باتت نافرة، وليس سراً أن المسيحيين يعانون من نزيف الهجرة المتواصلة نتيجة غياب الدولة وهيمنة “الحزب” ومصادرته قرار الحرب والسلم الذي يضعه في خدمة المشروع الايراني، ما يُهدد الجسم اللبناني بتغيير ديموغرافي سيكون ضحاياه الأساسيون المسيحيين على نحو خاص.

واللافت أن الضغوط على “الحزب” لتغيير سلوكه تأتي من الخارج والداخل، فاسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهما يريدون منه أن يُطبّق القرار 1701، والمعارضة في الداخل تصرّ أيضاً عليه كي يُطبّق هذا القرار وكل القرارات الدولية الأخرى، إضافة إلى الحياد الايجابي والنأي عن إقحام لبنان في أزمات المنطقة.

ولا يختلف اثنان على أن المرحلة المقبلة ستحمل تغييرات إلى المنطقة، لن يكون لبنان بعيداً عنها، ولا سيما القضية الفلسطينية، والأذرع العسكرية التابعة لإيران وسيشمل ذلك موضوع سلاح “الحزب”، لذا يجهد لإتمام مقايضة تقوم على تراجعه بضعة كيلومترات عن الحدود مع اسرائيل مقابل مكاسب في الداخل، إلا أن كل المعطيات المتوافرة تشير إلى أن عواصم القرار وخصوصاً واشنطن رفضت مثل هذه المقايضات، و”الحزب” ليس في أفضل أوضاعه نتيجة الضوابط التي وضعتها له إيران وتؤدي إلى استنزافه في الحرب الدائرة في الجنوب.

من المؤكّد أن المعارضة لن تقبل بالعودة إلى ما كان عليه الوضع في لبنان قبل 7 تشرين الأول الفائت، إلا أن مصادرها تميّز بين أمرين أساسيين: أولاً، رغبتها في أن تنتهي الحرب من دون توسّعها والإنصراف إلى تأسيس دولة فعلية، وخصوصاً أن هذه الحرب أسقطت كل نظريات “الحزب” كتوازن الردع ووحدة الساحات وتوازن الرعب وإلى ما هنالك من شعارات واهية. ثانياً، قدرة المعارضة على تحقيق رغبتها، وهذا ما يحتاج إلى عاملين: الأول داخلي تكوّن سابقاً في 14 آذار 2005 من المسيحيين والسنّة والدروز ويبدو غير متوافر بسبب انكفاء المكوّن السنيّ وتراجع المكوّن الدرزي، والعامل الثاني خارجي ليس موجوداً بسبب تفاوض الولايات المتحدة مع إيران وكذلك التقارب بين السعودية وإيران، ولبنان ليس ملفاً أساسياً في أي من هذه المفاوضات.

وترى مصادر المعارضة أن “الأمل الوحيد للخروج من الحالة التي وضعنا فيها الحزب بعد مرحلة الحرب هي الذهاب إلى تسوية رئاسية، لكن حتى لو حصل ذلك، فإذا استمر السلاح مع الحزب لن تقوم دولة، وسيستمر في استباحة الحدود والمعابر غير الشرعية وانهيار المؤسسات، وسنبقى عرضة لحروب جديدة بعد 10 سنوات، وبالتالي لن تكون هناك نهاية لهذه الدوامة”.

عملياً، لا يغيب عن بال المعارضة أن مشروع الممانعة الذي تواجهه ليس فريقاً سياسياً عادياً تختلف معه على انتخاب رئيس للجمهورية فقط، بل تبدأ امتداداته من إيران ولا ينتهي على شواطئ البحر الأبيض المتوسّط، لذلك تعتبر مصادر المعارضة أن “مواجهة هذا المشروع يحتاج إلى مشروع آخر يوازيه بالامكانات والقدرات والإرادة والتوجّه، إلا أنه غير متوافر الآن”.

مع ذلك، لا وجود لليأس في قاموس المعارضة، وتلفت مصادرها إلى أنه “ما دام لا يُمكننا تغيير تركيبة النظام اليوم، فستبقى الأولوية لمنع الفريق الممانع من انتخاب مرشحه لرئاسة الجمهورية، وتحسين شروط التسوية للذهاب إلى رئيس جمهورية غير خاضع للحزب، بحيث يُمكن بناء مسار سياسي معيّن يقوم على مؤسسات دستورية مستقلة عن هيمنة الحزب ويكون ذلك خطوة بإتجاه تسجيل نقاط استراتيجية في سياق مواجهة طويلة”.

أما “القوات اللبنانية” التي تُعتبر رأس حربة في مواجهة مشروع “الحزب” فكانت مقتنعة قبل الحرب بأن الأمور وصلت إلى حدّ النهاية مع “الحزب” بحيث لا يُمكن الاستمرار في العيش مع هذا المشروع، ويوضح الوزير السابق ورئيس جهاز العلاقات الخارجية في “القوات” ريشار قيومجيان لموقع “لبنان الكبير” أن “الحرب جاءت لتسرّع الأمور لأننا مقتنعون بأنه في ظل الوضع القائم مع الحزب لا يمكن الوصول إلى دولة، فهو ساعة يريد أو تريد إيران يأخذك إلى السلم فيمرر معاهدة ترسيم الحدود البحرية من دون موافقة مجلس النواب، أو يأخذك إلى الحرب كما فعل منذ 8 تشرين الأول الفائت”.

ويشير قيومجيان إلى أن “الحزب اذا اقتنع بعد نهاية الحرب بتسليم سلاحه والعودة إلى مشروع الدولة، فسنتوافق معه انطلاقاً من مبدأ الشراكة والمناصفة واتفاق الطائف مع مراعاة مبدأ المساواة في تقاسم السلطة بين كل المكوّنات اللبنانية”.

عموماً، لا أحد يعرف كيف ستنتهي الحرب وكيف سيخرج منها “الحزب”، ويقول قيومجيان: “بصرف النظر عن نتائج الحرب، نحن نعتبر أننا محكومون بالبقاء معاً، إلا أنه لا يمكننا التعايش مع الوضع القائم، لذلك سنطالب بعد الحرب، إذا لم يرضخ الحزب لمفهوم الدولة، بتركيبة سلطة جديدة أو طرق أخرى للتعايش مع الحزب وسلاحه وارتباطاته الاقليمية، فهو يُطبّق الفديرالية في مناطقه، وبالتالي سنطرح الأمور بصراحة، اما أن نطبّق كلّنا الفديرالية أو لا أحد يُطبّقها”.

ترفض “القوات” منطق الحرب أو استخدام السلاح في مواجهة سلاح “الحزب” في الداخل، وتعرف أن الحرب لن تصل إلى أي مكان، إلا أنها لا تفهم تلك الأصوات التي تطالبها أو تطالب البطريرك الماروني بالذهاب إلى الخارج. ويلفت قيومجيان إلى أن “القوات لا تراهن على الخارج انما تؤمن بأن الحل يأتي من الداخل أولاً، وخصوصاً أن بعض الحكومات الخارجية قابل باستمرار الوضع على ما هو عليه في لبنان، بل يسلّم بنفوذ الحزب ويؤيد تأجيل الكلام عن تسليم سلاحه”.

مع ذلك، لا يرى قيومجيان أي مانع بزيارات للمعارضة و”القوات” إلى عواصم القرار لشرح طبيعة الأزمة وما يعوق قيام دولة في لبنان، وهذا عمل تراكمي.

في المحصلة، لا بد من الاعتراف بأن المنطقة مقبلة على تغييرات كبيرة، وبالمقارنة مع عام 2005، فقد تقاطعت مجموعة أحداث دولية ومحلية كاستشهاد الرئيس رفيق الحريري وحرب العراق والقرار 1559، وترافق ذلك مع قرار داخلي قويّ مثّلته قرنة شهوان بقيادة البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، ما أدى إلى خروج الجيش السوري وتحرير لبنان. ولا شيء يمنع اليوم من تكرار هذه التجربة في مواجهة النفوذ الايراني وتحرير لبنان منه، لذلك يجب أن تتحصّن القوى السيادية بموقف ثابت وصلب للمطالبة بالدولة والسيادة والاستقلال الفعلي وبناء دولة عصرية حديثة.

شارك المقال