الأزمة اللبنانية… خلافات حول الدولة العميقة

محمد شمس الدين

كل فترة يحصل حادث أمني ما، وتطفو الخلافات التي ظاهرها بين محور “الممانعة” ومحور “السيادة”، ولا تقتصر التعليقات على منطق الاتهام واستغلال الحادث وحسب، بل تمس قلب النظام اللبناني ككل، وعلى الرغم من ذلك لا تظهر الى العلن المشكلة الحقيقية. قد يظن البعض أن الخلاف هو على وجه لبنان، أو على انقسام بين محور المجتمع الدولي والغرب، ومحور ايران والشرق، ولكن كل هذه الخلافات فعلياً هي قشور المشكلة الأساسية.

لتفنيد هذه المشكلة لا بد من العودة الى الماضي، لبنان الكبير، بشكله وحدوده الحالية، جاء تأسيسه ليكون بلد المسيحيين وسط بحر من المسلمين، أو على الأقل هكذا أراده بطريرك الموارنة الياس الحويك ومن معه، بغض النظر عن أجندات الفرنسيين والغرب في ذلك الحين. وكان لبنان جزءاً من سوريا الكبرى، وسلخ عنها بموجب اتفاقية “سايكس بيكو”.

وللتذكير فإن البطريرك الحويك رفض عرضاً أرثوذكسياً بجعل لبنان بلداً فديرالياً يضم أقاليم ذات أكثرية أرثوذكسية من سوريا اليوم، وذلك من أجل تثبيت حكم الموارنة في لبنان، إلا أن رياح الديموغرافيا أتت بما لا تشتهي البطريركية، فبعد أقل من 3 عقود، تبين أن المسلمين سيسبقون المسيحيين عددياً، وبفرق شاسع، وبدل أن يجد الموارنة طريقة للمشاركة في الحكم، أصروا على الاحتفاظ بامتيازاتهم، ما أدى في نهاية المطاف إلى صراع بين المكونات، دخلت على وسطه تدخلات خارجية، بالاضافة الى وجود الكيان الاسرائيلي على الحدود، وبالتالي كان الجميع ينتظر لحظة الانفجار التي وصل اليها البلد في 14 نيسان 1975، وقتل اللبنانيون بعضهم البعض لمدة 15 عاماً، حصلت خلالها عدة مؤتمرات من أجل حل الأزمة اللبنانية. وخلال مؤتمر جنيف يقول الرئيس نبيه بري ان الرئيس أمين الجميل عرض عليه أن يكون للشيعة موقع نائب رئيس الجمهورية، إلا أنه رفض حينها كون الأمر كان مشروطاً بعدم التطرق إلى مواضيع شراكة أخرى.

وبقيت الحرب والمفاوضات حتى وصل لبنان إلى اتفاق الطائف، الذي اتفقت عليه المكونات، ولكن بقيت لدى الشيعة تحفظات معينة في الطائف، اعتبروا أنه يمكن تخطيها لاحقاً عندما يصبح النظام اللبناني نظاماً مدنياً بحق، إلا أن هذا لم يحصل أبداً، وبالتالي بقيت هذه التحفظات، حتى يومنا هذا. وقد يظن الناظر بعين بعيدة أن الأمر متعلق بمواقع معينة أو وظائف معينة، إلا أن المشكلة هي في الاقتصاد والدولة العميقة، وعلى الرغم من أن الشيعة يتسلمون اليوم وزارة المالية، حاكمية مصرف لبنان، وإدارة وزارة الاقتصاد، إلا أنهم يعتبرون أنهم لم يدخلوا إلى الحكم الاقتصادي في البلد، فلا يزال هذا الشق، بغالبيته حصرياً للمسيحيين.

وعندما انتهت الحرب باتفاق الطائف، اعتبر المسيحيون أنهم خسروا السلطة التي كانت بمعظمها في أيديهم، وبالتالي بقي الاقتصاد هو الضمانة لهم، مع بقاء السلاح بيد الشيعة. إلا أن الشيعة يعتبرون أن السلاح لا معنى له في الداخل اللبناني، ولا يمكن تصريف القوة العسكرية في الحكم، بل لا يحاولون أصلاً استخدام السلاح لفرض مكتسبات في الداخل، ولعل أكبر دليل هو انتخاب ميشال عون رئيساً، حليف “حزب الله” الأول في تلك الفترة، لم يتمكن من الوصول إلى الرئاسة عبر قوة سلاح الحزب، بل عبر اتفاق عقده مع خصمه السياسي سمير جعجع، وبالتالي لا معنى لكل فائض القوة العسكرية في المعادلة الداخلية اللبنانية.

لا شك في أن النفوذ الشيعي في الدولة اللبنانية تعاظم بصورة كبيرة في العقدين الأخيرين من الزمن، إلا أن هذا النفوذ سياسي بشكل كبير وفق ما تعتبر مصادر قريبة من الثنائي الشيعي في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أما في الاقتصاد فالنفوذ الاقتصادي الشيعي لا يكاد يذكر، وفق المصادر نفسها.

وتقول المصادر: “عندما جرت دراسة من أجل إعادة هيكلة القطاع المصرفي تبين أن ثلثي المودعين هم من الطائفة الشيعية، وعلى الرغم من ذلك كان هناك إصرار على أن تبقى المصارف بإدارتها كما هي، أي من دون مصرف شيعي. عذراً على الطائفية ولكن هذا هو الواقع، وليس في القطاع المصرفي وحسب، بل في غالبية أكبر القطاعات التي تدير عجلة الاقتصاد في البلد، هناك نوع من الرفض أن يدخل الشريك الشيعي إليها، بحجة واهية، تضع اللوم على الأميركيين، وتعتبر أن أي قطاع يدخل إليه الشيعة سيتعرض للعقوبات، أو على الأقل لضرب الثقة فيه بسبب وجود الشيعة في خانة المغضوب عليهم أميركياً، ولكن حتى لو أن هذا الأمر صحيح، مع أن هناك العديد من الشيعة البعيدين عن حزب الله، فهذا يعني أن طائفة بأكملها تحرم من حقها بالشراكة الاقتصادية في البلد، خوفاً من الأميركيين، وهذا ليس عدلاً، وإن أصبح الأمر كذلك فعلاً، العدل يكون بأن نعدد خيارات الاقتصاد، والتوقف عن اعتبار أميركا قدراً محتوماً، لا أن نعزل طائفة عن الشراكة”.

وتضيف المصادر: “مضحكة خطابات الشراكة التي يخرج بها البعض أمام جمهوره، فهم يقولونها في ملف رئاسة الجمهورية، ولكن في الشراكة الاقتصادية هم أكثر من يتصدى لها”.

حاول “لبنان الكبير” الحصول على رأي عدة خبراء في الشأن الاقتصادي من ناحية هذا الملف، لكنهم فضلوا عدم التحدث فيه نهائياً في هذه الفترة، إلا أنهم أكدوا الصراع الدائر تحت غطاء السياسة حول الاقتصاد، وقبل الاتفاق على الدولة العميقة في السر، سيبقى الخلاف على الدولة السطحية، من مواقع ورئاسات وحتى حراس أحراج، يتأجج في العلن.

ويرى أحد العالمين بالخفايا اللبنانية أنه “حتى يتم الاتفاق على الاقتصاد، أي حادثة تحصل في البلد، ستأخذ طابع الرأي العام، وسيتم استثمارها في الهجوم السياسي، وما كان ينقص هذا الجو المشحون أصلاً إلا حرباً مع اسرائيل في الجنوب، لتزيد من الشرخ بين القوى اللبنانية، على الرغم من أني أتوقع أن النهاية لهذا الواقع ستكون بكلمة سر خارجية”.

شارك المقال