أي نهاية لـ “حرب غزّة” ستُبقي لبنان تحت الاحتلال الإيراني

عبدالوهاب بدرخان

تسعة وأربعون عاماً مرّت على اندلاع حرب أهلية لبنانية تخللتها اجتياحات اسرائيلية، واستمرّت على وقع حروب أهلية سياسية أدارتها “الوصاية” السورية التي تحوّلت الى “احتلال إيراني” استخدم ويستخدم “حزبه”/ أداته وأدوات أخرى محلية في العبث بأمن لبنان وتعايش أبناء شعبه، والتلاعب بالنظام والصيغة، لإقامة احتلال مستدام.

هذه الدول الإقليمية الثلاث، إسرائيل وسوريا وإيران، مارست استقواءً وحقداً أسود ووحشية على البلد، ويجمع بينها على الرغم من تفاوت الدوافع والأسباب أنها اعتبرت صيغته “خطراً” عليها. إسرائيل غزت لبنان لطرد الفلسطينيين الذين طردتهم من بلادهم، وقد تغزوه ثانيةً بأسلوب مختلف لطرد الإيرانيين. سوريا- الأسد احتلّته بذريعة إنهاء الحرب الأهلية فأنهتها وزرعت بذوراً لحروب أخرى تبقي على هيمنتها، وحين فقدت الغطاء الدولي لوجودها في لبنان ودّعته باغتيال آخر رجاله الوطنيين فاضطرت الى أن تنسحب منه عسكرياً لتعود فتغرقه في نزوح شعبي لم يعد ممكناً ولا واضحاً كيف يمكن معالجة أضراره. أما إيران فشاركت في ذلك الاغتيال واعتبرته أولاً بداية لـ “وصايتها” الموروثة عن نظام الأسد، ثم جعلت البلد منصة سجال دائم مع إسرائيل، ثم شاركت في الحرب الأهلية السورية وساهمت عبر “حزبها” في تهجير السوريين، وهي الآن تريد لهذا “الحزب” أن يُبقي لبنان قاعدة انطلاق لـ “حرب كبرى” هدفها “محو” إسرائيل وانهائها.

في كل الحروب كانت القوى المحلية هي المحفّز والداعي للتدخلات الخارجية، كما هي اليوم، إذ تقدّم تناقضاتها للآخرين كي يستغلّوها في مآربهم. كل التدخلات السابقة للحرب الأهلية لم تطرح مصير لبنان ككيان ودولة وحتى كشعب، كما هو مطروح اليوم، وإذا كان كثيرون مقتوا الطائفية لأنها علّة العلل، وكرهوا صيغ التعايش لأنها كانت تكاذباً والتفافاً على المواطنية، واعتبروا توزّع المناصب والوظائف عيباً ممأسساً، فإنهم لا بدّ نادمون على كل ذلك حين يدركون أن “حزب إيران” الحاكم خطف البلد ونقله الى مكان آخر، الى حالٍ قد تبدو مجهولة الهوية والملامح لكنها أصبحت واضحة بعد الغاء الدولة في البلدان الأربعة التي سيطر عليها الإيرانيون وأتباعهم، إذ اتّبعوا أسلوب الإخضاع للفئات كافة في كلٍّ من سوريا والعراق واليمن. وهو ما جرى ويجري في لبنان حيث يُستغلّ التنوع في المجتمع، إذ أُخضع الشيعة ثم السنّة بترهيبهم ويبقى انجاز اخضاع المسيحيين اعتماداً على الخلافات في ما بينهم. وقد اعتمد الإيرانيون في كل هذه البلدان على “منظومات فساد” نهبت مقدّرات الدولة، وهو ما حصل في لبنان حيث نُهبت أيضاً أموال اللبنانيين جهاراً نهاراً.

لكن يبقى لدى إيران و”حزبها” شيء من الحذر بالنسبة الى لبنان، تحديداً في اللحظة الراهنة بعدما أمرت طهران “الحزب” بفتح جبهة الجنوب ضد إسرائيل من دون حتى فبركة موافقة من “الدولة” ولا تلفيق “توافق وطني” ظاهري. لم تكن للحكومة (ولو أنها حكومة لتصريف الأعمال) قدرة أو صوت أو فاعلية للتأثير على الرغم من أن الأمر يتعلّق بحرب لم يعد مستبعداً أبداً أن تنزلق من الجنوب الى عموم البلد. جرى توظيف العونيين في مهمة قذرة وبحجج واهية لسلب هذه الحكومة إمكان أن يكون لها قرار وموقف واضح ضد الحرب، وحوصر رئيس الحكومة بحيث لا يستطيع حتى الضرب على الطاولة احتجاجاً أو الانسحاب أو الاستقالة على افتراض أن لديه مثل هذه الإرادة. وبطبيعة الحال كان مجلس النواب ولا يزال مجرّد هيئة معطّلة بلا حول ولا قوة، ليتمتّع رئيسه ضمنياً بوظيفة ساعي البريد بين “حزب إيران/ حزب الله” وناقلي الرسائل الخارجية بما فيها من مساومات مشبوهة على أمن لبنان وأمان اللبنانيين الذين يحرص “الحزب الحاكم” على تركهم في العتمة.

فائض القوّة الذي استأثر به هذا “الحزب” من النهاية الفرضية للحرب الأهلية، التي كرّسها “اتفاق الطائف” واعترافه باستمرار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، من دون أن يضع ضوابط لـ “ما بعد الاحتلال” أو “ما بعد التحرير”، فكان أن الجنوب انتقل من احتلال معادٍ انسحب قبل نحو ربع قرن إلى احتلال آخر حوّل الجنوب الى أرض خارج سلطة الدولة، ومنه تمدّد الاحتلال الى مفاصل الدولة. وقد استفاد هذا “الفائض” من فائضين آخرين، الأول وفّرته مخيمات الفلسطينيين التي مدّ سيطرته عليها عبر “حماس” و”الجهاد” وما تيسّر من شِلل “متأسلمة”، والثاني استُمدّ من حال الفوضى التي أشاعها النازحون السوريون وشكّلوا فيها عصابات مسلّحة ذات فروع محميّة داخل سوريا، وقد وُظّفت في كل أعمال التهريب والخطف والقتل. وبذلك أصبح لـ “حزب إيران” وكلاء محليّون ينوبون عنه في جرائمه السياسية ويحققون أهدافه القذرة.

مع هذا “الحزب” ووكلائه، المعروفين وغير المعروفين، السياسيين والمجرمين، أصبح كل شيء في خدمة المشروع الإيراني، من تهريب الصواريخ والأسلحة، الى تهريب الكبتاغون وغيره، الى تهريب النازحين، الى أعمال خطف وقتل (كما حصل لباسكال سليمان منسّق “القوات اللبنانية” في منطقة جبيل)، الى حوادث مفتعلة كثيرة هدفها إشاعة التوتر وانعدام الأمن. وبسبب الحال الشاذة التي أنشأها هذا الحزب” وانتهك بها أي “شرعية” في لبنان فقد فتح الأبواب والنوافذ أمام كل أنواع الاختراقات، من “الموساد” (خطف الصيرفي مموّل “حماس” وقتله) وغيره من الأجهزة السرّية، تماماً كما هي الحال أيضاً في سوريا حيث أصبح بشار الأسد مجرّد “رئيس” لتصريف أعمال نظامه.

لا أحد لديه أي تصوّر واقعي للوضع الذي سيخرج به لبنان من “حرب غزّة” في جنوب لبنان. لم يعد سيناريو “الحل الديبلوماسي” مرجّحاً، فيما يحاول “حزب إيران” جعل “الحل العسكري” على شاكلة الردّ الإيراني على ضرب القنصلية في دمشق، أي أن يحفظ ماء وجه نظام الملالي من دون حرب واسعة تمسّ الأراضي الإيرانية. لكن المواجهة في جنوب لبنان، إذا تفجّرت، ستكون مختلفة وينبغي أن تفضي الى “واقع جديد” في الجنوب، واقع يُفترض أن يلبّي معظم “الشروط” الإسرائيلية- الأميركية ولن يكون مُرضياً لـ “حزب إيران” إذا فرض نشر قوات أكبر للجيش اللبناني الى جانب “اليونيفيل”، فهذا يعزّز الدولة واستعادة سلطتها، و”الحزب” فعل كل شيء لكي تكون هذه الدولة واجهة له أو لا تكون. لعل الدرس الأهم للمواجهة/ الحرب الدائرة حالياً أنها كرّست واقع “احتلال إيراني” للبنان لا يشبهه سوى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبالتالي فهو يضع لبنان أمام حرب مستمرة ضد هذا الاحتلال.

شارك المقال