اسرائيل- ايران… لولا العرّاب الأميركي!

أنطوني جعجع

اسرائيل “المكابرة” ردت على الرد الايراني، بضربة طاولت الترسانة الجوية في أصفهان وليس النووية، في خطوة أرضت بها أميركا الخائفة من اتساع الصراع، وأكدت بالتالي قدرتها على الضرب في أي مكان في الشرق الأوسط من دون أي اعتراض اقليمي يستهدف مسيراتها أو طائراتها أو صواريخها المنطلقة نحو ايران وقواعدها في غير مكان.

هذا في اختصار ما فعلته تل أبيب التي نجحت للمرة الأولى منذ “الثورة الاسلامية” في العام ١٩٧٩ في جر ايران الى مواجهات مباشرة بعد سلسلة واسعة من التحديات والاستفزازات التي أدمت منظومتها الأمنية ووضعتها أخيراً بين واحد من خيارين: اما الرد بأقصى قوة واما الرد كيفما كان .

وخلافاً للرد الاسرائيلي الذي اخترق العمق الايراني من دون انذار مسبق تعدى واشنطن، لم ترد طهران بأقصى قوة معتمدةً على الكمية لا على النوعية، ولا كيفما كان في وقت استخدمت أحدث الأسلحة الصاروخية والجوية، ليأتي في شكل رد مبرمج ومدروس يتوخى ترهيب العدو أكثر منه تطويعه أو تدميره.

والواقع أن ما جرى في ليل “الخامس عشر” من نيسان لم ينجح في طمس الوجه الملتبس لعملية الرد التي بدت نسخة عن “حفلات صيد الطيور المهاجرة” أكثر منه تصويباً نحو أهداف حيوية يمكن أن تسفر عن “اصابات موجعة” على المستويين البشري والمادي، وأن تتحول الى نسخة منقحة عما فعله “حزب الله” عندما حسب أن ترسانته الصاروخية وفتح جبهة الجنوب يمكن أن يأخذا حرب غزة الى مكان آخر.

والواقع أيضاً أن ايران اكتشفت أن الوصول الى اسرائيل يجب أن يمر بأميركا أولاً وبعدد لا بأس به من الحلفاء الآخرين، خلافاً لاسرائيل التي بدت متحررة من أي كمائن وهي في طريقها الى أصفهان، وأكثر كفاءة في الحروب البعيدة وخلف خطوط العدو.

ولا يخفى على أحد، على الرغم من المكابرة في صفوف الممانعين، أن حلفاء ايران الذين عانوا إحراجاً طويلاً حيال النأي الايراني عن حرب غزة وتوابعها، لم يجدوا في ليلة المسيرات والصواريخ الباليستية ما يبشر بقوة عاتية قادرة على تغيير معادلات ومسارات، وعلى لجم اسرائيل أو انقاذ غزة أو جر الأميركيين الى جنيف لاستنئناف المفاوضات النووية.

ويسود اعتقاد في الدوائر القريبة من محور الممانعة، أن ما فعلته ايران بعد قصف القنصلية في دمشق واغتيال ضباطها السبعة الكبار، لم يختلف عما فعلته بعد اغتيال قاسم سليماني، ما يعني أن طهران التي تبحث عن “انتقامات في قفازات بيض” لن تخوض أي حروب مباشرة وستواصل تحريك وكلائها في مواجهة اسرائيل في مكان والولايات المتحدة في مكان آخر، وهو ما حدث انطلاقاً من لبنان بعد قليل من دوي الانفجارات الاسرائيلية في أصفهان.

ولا يخفي مصدر قريب من الضاحية الجنوبية خيبته من أمرين أساسيين أعقبا “طوفان الأقصى”، وهما أن “حزب الله” الذي فتح جبهة الجنوب “لم يكن في مستوى توازن الرعب والردع الذي طالما تسلح به”، وأن الترسانة الايرانية التي كانت توحي بامكان تدمير اسرائيل في بضع دقائق “لم تكن أكثر من قوة عادية تفتقر الى الدقة العالية والسرعة والفاعلية والقدرة على المناورة والمقاومة”، وأن اسرائيل المنشغلة على جبهات عدة لم تفقد القدرة على فتح جبهة جديدة.

وأكثر من ذلك، يتفق الكثير من المراقبين على أن عدم رد ايران كان يمكن أن يكون أكثر ترهيباً من الرد الذي ارتد عليها عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً وحوّلها الى دولة مُدانة “تعتدي” على الآخر، وليس دولة جريحة تملك حق الرد سواء دفاعاً أو هجوماً.

ويقول مصدر ديبلوماسي غربي: ان ايران أخطأت عندما هاجمت عمق الكيان الاسرائيلي، على غرار ما فعل صدام حسين، بدل أن تهاجم هدفاً ثميناً، وأخطأت أيضاً عندما تجاهلت وجود أضخم شبكة دولية مضادة للصواريخ تمتد من شواطئ ايران حتى تخوم اسرائيل، وعندما أقدمت على خطوة أنعشت بها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي بدا بالنسبة الى شعبه “حارس الهيكل” المدعوم من معظم العالم في شقيه الغربي والشرقي.

وعلى الرغم من أن الفضل في صد الهجوم الايراني يعود في معظمه الى الأميركيين، الا أن نتنياهو تمكن من التقاط أنفاسه وبات في موقع “الضحية” هذه المرة وليس الجلاد، مدعوماً بكوكبة كبيرة من الدول المستعدة للذهاب بعيداً في لجم ايران لا بل معاقبتها.

وقد يكون في هذا العرض بعض المبالغات، لكن الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ “السابع من أكتوبر” لا تحتمل أي مبالغات عاطفية أو شخصية، اذ ان ايران تعرف أن ما فعلته “حماس” فتح أبواب جهنم في المنطقة ووضعها مع حلفائها جميعاً حيث عملت على تغاضيه طويلاً، أي الدخول في حروب شاملة على غرار الحرب العراقية- الايرانية.

ولعل هذا الجو الضاغط هو الذي برمج الرد الايراني في شكل “يخدش” اسرائيل ولا يجرحها بهدف منعها من استغلال غضبها للقيام بغارات تستهدف المنشآت النووية الايرانية، والاكتفاء باستهداف منشأة جوية عسكرية تشبه تلك التي أصابتها صواريخ إيرانية في صحراء النقب.

وليس سراً أن الأميركيين تمكنوا من هندسة رد ايراني أرادته واشنطن كبيراً وليس خطيراً، وأرادته طهران هديراً أكثر منه تدميراً، ورد اسرائيلي أرادته فاعلاً وليس هائلاً الى الحد الذي لا يعيد تبادل القصف الى المربع الأول، وخرجوا معترفين بأنهم تجنبوا حرباً شاملة لا يريدها أحد.

وسط هذا المشهد، يصل المراقبون الى نتيجة واحدة تتمثل في أن عملية أصفهان على الرغم من جموحها المضبوط والمدروس كانت أقل مسرحية من “عراضة الخامس عشر من نيسان” وطرحت السؤال الآتي: ماذا كان يمكن أن يحدث لو استهدفت إسرائيل منشأة نووية؟ وماذا جنَت ايران من “ليلة المسيرات” أكثر من عقوبات اضافية، وعزلة متراكمة ورد اسرائيلي كان يمكن، لولا العراب الأميركي، أن يضرب هيبتها مجدداً أو أن يجرها الى ما لا تريده، أي الحرب الشاملة؟

وهنا، لا بد من السؤال عينه، هل سترد ايران؟ الجواب جاء سريعاً عندما أعلنت أنها لم تتعرض لأي هجوم من خارج البلاد، مبرئة اسرائيل مما جرى وواضعة الأمر في خانة ضربات داخلية تشبه ربما ما جرى في بلوشستان أخيراً، وحول ضريح الخميني في طهران قبل بضعة أشهر.

هذا في الجو، اما في البر فلم يكن الوضع أقل ضجيجاً، اذ حرّك نتنياهو دباباته استعداداً لاقتحام آخر معاقل “حماس” في رفح، واقفال واحدة من جبهات ايران على حدود اسرائيل الجنوبية، وربما الانصراف لاحقاً الى التعامل مع ترسانة “حزب الله” على حدودها الشمالية.

شارك المقال