منارة بيروت… شاهدة على “منارة الشرق”

زياد سامي عيتاني

بيروت الحضارة والعراقة، قد يقول قائل: “إنها لا تحتاج إلى منارة” (!) فهي، “منارة الشرق”، ساطعة، مشرقة، مضيئة، ومتلألئة.

لكن أهمية موقع بيروت، جعلت من مرفئها عبر التاريخ، المرفأ الأساس على ساحل الشرق المتوسط، فكان لا بدّ من إنشاء منارة لإرشاد السفن، كي يتمكن من تأدية وظيفته المرفئية، وفقاً لأنظمة الملاحة البحرية وقوانينها التي كانت قائمة.

ونظراً الى تميّز الشاطئ البيروتي بالرمال في بعض مناطقه، وبالصخور في مناطق أخرى، كان لا بد من أن يتّخذ والي بيروت قراراً بإقامة منارة على مرتفعٍ بارز في منطقة رأس بيروت وذلك عام 1820. وكانت منارة بيروت التاريخية قد أسهمت إسهاماً بارزاً في هداية السفن ليلاً، وتحذيرها لئلا تقترب من الشاطئ لأن الاقتراب منه يمكن أن يهدّدها عندما ترتطم بالرمال أو الصخور.

لذلك، طلبت السلطات العثمانية في العام 1862، أيام داوود باشا، أول متصرف عيّن في لبنان إبان الحكم العثماني، من مهندسين فرنسيين بناء منارة بحرية على الطرف الشمالي الغربي لمدينة بيروت، في منطقة كانت تعرف بـ “الراس” أو “راس المدينة”، قبل أن يطلق عليها “رأس بيروت”، وذلك على أرض آل عرداتي (حتى الآن يحمل الشارع إسم العائلة). يومها، كانت الأرض تباع بـ “الشملة”، و”الشملة” طولها 10 أذرع وعرضها 30 سنتيمتراً، (أي نحو 7 أمتار)، وكان ثمن “شملة” الأرض عشرة قروش ذهباً.

يذكر أن تلك المحلة نتأت فيها الصخور الرملية المسننة، وخلت وقتها من كل بناء، إلا من أنقاض برج يرجّح أنه بني في الحروب الصليبية، وكانت النار تشتعل في قمته لإعلام دمشق بأن خطراً دهم ثغرها. أما الدروب إلى تلك البرية النائية فأودية بين تلال الرمول، لا يجرؤ الانسان على السير عليها منفرداً!.

و في العام الذي تلاه، فرغ المهندسون الفرنسيون من بناء المنارة من الحجر الرملي، على سفح مليء بالصبار، تحيط بها بيوت قليلة، منها منزل آل عرداتي (البيت الزهري)، ومنزل آل لبابيدي، ومنزل آل داعوق، ومنزل آل عيتاني الملاصق لها.

كما كانت تشرف من على 38 متراً على “ميناء شوران”، الذي أصبح لاحقاً “الحمام العسكري”، وعلى ملعب “النهضة” الذي كان مرجاً فسيحاً للزراعة. في العام 1863 باشرت المنارة عملها في هداية السفن المبحرة ليلاً إلى بيروت.

وعند البدء بتشغيل المنارة تسلم أنطوان رامح شبلي إدارتها، ومنذ ذلك الحين وآل شبلي توارثوا المنارة جيلاً بعد جيل، حتى لُقّبوا بـ “آل المنارة”. وشبلي كان سمكرياً ماهراً من بكفيا، وجعلت شهرته الجهة البانية تكلفه تشغيلها وصيانتها.

كان نورها ينبعث من قنديل يعمل على الكاز، له شاشة أشبه بشاشة “اللوكس”، وقوة “البروجكتور”.

ومنذ ذلك التاريخ تحوّلت بيروت إلى مرفأ رئيس على سواحل الشرق، وباتت بفضل السفن البخارية المتجهة إليها، مدينة سيّاحٍ يقصدونها طلباً لربيعٍ دائم في سفوح لبنان، على غرار الذين كانوا يؤمون جنوب فرنسا.

كما شهدت بيروت في تلك الحقبة تطوراً اقتصادياً بارزاً، لا سيما بعد الاهتمام بمرفأ بيروت الذي كان ملتقى لمختلف التجار من جنسيات مختلفة يعملون في الاستيراد والتصدير، ونظراً إلى الحركة التجاريّة البارزة ووصول السفن التجاريّة من الولايات العُثمانيّة والدول الأوروبيّة.

بعد فترة من الزمن تسلم أنطوان شبلي منارة أخرى في يافا، فسلّم منارة بيروت لإبنه جورج عام 1925، واستمر فيها حتى العام 1930، حين سلّمها لابنه الآخر جوزف الذي كان قد تخرّج متخصصاً في الميكانيك والكهرباء من مدرسة الصنائع في الدكوانة. وبما أن جوزف كان يعمل عسكرياً في الأمن العام الفرنسي، ويتنقل بين لبنان وسوريا، إضطر الى تكليف أبنائه الاستمرار في تشغيل المنارة وصيانتها، فباتوا الساكنين في بيتهم العائلي في أسفل مبنى تلك المنارة الذين لا يبرحونها.

بقيت المنارة تعمل على الكاز حتى العام 1952، إلى أن لاقت المصير الأسود الذي واجهته بهدمها عقاباً، كرد فعل على غرق الباخرة الفرنسية “شمبليون”، عشية عيد الميلاد عام 1952.

فقد دفعت تلك المنارة ثمن ضحية البحر والالتباس الذي رافق غرق “شمبليون” التي إصطدمت بصخرة في منطقة الأوزاعي، بعدما اعتقد قبطانها وفريقه أن ضوء برج المطار هو المنارة، في حين كانت المنارة الحقيقية بحسب القبطان مطفأة، على الرغم من أن حارسها جوزيف شبلي روى في التحقيق معه على مدى عشرين يوماً، كيف صعد السلالم التي ترتفع 38 متراً، وبيده قنديل الكاز، ليشعل فتيلة السراج الكبير الذي يعمل على الكاز كعادته اليومية منذ أن كان يساعد والده الذي تولى حراسة المنارة وإشعال فتيلها.

يقال في هذا المجال، إنّ أصحاب الباخرة المؤمّن عليها لدى إحدى شركات التأمين، على الرغم من قدمها، إستغلوا غرقها، وصاغوا قصة أن المنارة لم تكن مضاءة، عارضين على عائلة شبلي الجنسية الفرنسية، مقابل إعترافهم بأنها لم تكن مضاءة تلك الليلة!.

هذه الحادثة، دفعت السلطات اللبنانية الى التفكير في بناء منارة أعلى وتجهيزها بمعدات كهربائية بالتعاون مع شركة BBT الفرنسية.

في عام 1957، افتتحت المنارة الجديدة بقياس 50 متراً وطُليت باللونين الأسود والأبيض، فهدمت المنارة القديمة، بعدما أسهمت إسهاماً بارزاً في هداية السفن ليلاً، وتحذيرها لئلا تقترب من الشاطئ.

قامت منارة بيروت القديمة بدور بارز منذ العام 1820 حتى العام 1976، تخلّله بعض التوقف لأسباب أمنية كما حدث في الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 حين أمرت الدولة العُثمانيّة بوقف العمل بها. ثم جاءت السلطات الفرنسيّة فأمرت بإعادة تشغيلها، حتى توقفت ثانية إبان الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 لفترات طويلة، ثم استمر العمل بها،. وما إن نشبت الحرب الأهلية في حرب السنتين 1975 – 1976 حتى توقفت تماماً عن العمل، إلى أن رمّمت وأعيد تأهيلها بتوجيه من الرئيس رفيق الحريري وبإشراف وزير الأشغال آنذاك عمر مسقاوي، وابتُدِئ العمل بها عام 1994.

وجرى الحديث مسبقاً عن هدمها لكنه اعتبر ضرباً من ضروب القضاء على التراث والحضارة في بيروت، وفي محاولة لإقامة منارة بديلة على الشاطئ المحاذي للنادي الرياضي، علماً أنه أنشئت بالفعل منارة بديلة بمواصفات عالمية على الشاطئ المحاذي لمرفأ الصيادين في منطقة المنارة قرب الحمام العسكري، مع الابقاء على المنارة القديمة كمعلم تراثي.

شارك المقال