سونيا بيروتي نجمة لا تغيب

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

تعرفت على سونيا بيروتي خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عندما أجريت مقابلة صحافية معها لنتحدث فيها عن واقع النساء اللبنانيات في هذه الحرب. إستقبلتني في منزلها الواقع في الطابق الأخير من مبنى في وطى المصيطبة، كان أشبه بحديقة ملأى بالنباتات الخضراء الضاحكة للشمس المشرقة في الخارج، منزل عصري لطيف يعكس روح ساكنيه. أتذكر سيجارتها التي لم تكن تفارق يدها أبداً وهي تتحدث عن أمور جدية ولا تفوتها السخرية من الواقع المعاش، ومن دون أن تسقط في الدراما المؤلمة فهي كانت تفتح الأبواب دوماً، وقد عكست ذلك من خلال بطلات قصصها العاديات لترين الحياة من وجهة أخرى ولنكتشف معهن أنفسنا أيضاً في العمل والعلم والحب والأمومة وننسج ربما قدراً جديداً وحياة مختلفة عن المكتوب.

كانت تحب الموسيقى والفن الأصيل، وكنا نهرب في مساءات العمل المضني خلال عملنا سوية في صحيفة “المستقبل”، الى منزل سونيا، حتى ننسى العالم الخارجي، فنستمع إلى تسجيلات خاصة لأم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وعبد الحليم، كما لاديث بياف وميراي ماتيو وشارل أزنافور وغيرهم. كنا نتناول العشاء مع كأس يليق بالجلسة وكأننا في عالم سحري، نبتعد عن الهموم السياسية وواقع الحال الذي يقلقنا، نعيش ساعات مختلفة نتعبأ لمواجهة العادي في اليوم التالي، زادنا نقاش فكري أو ثقافي لا نختلف فيه كثيراً في وجهات النظر وإنما نتألم لعالم لا يزال يرى في العنف حلاً، وفي الغاء الآخر انتصاراً، وفي الطائفية ملجأ، وفي الانتهازية درباً، وفي الثرثرة على الآخرين معرفة. كان عالم صداقتنا مختلفاً كلياً، تمت حياكته بدقة، بحب وثقة مشتركة.

عندما بدأنا العمل في جريدة “المستقبل” تسلمت سونيا مسؤولية صفحة المرأة، وكانت “المستقبل” أول جريدة يومية تولي قضايا النساء الاهتمام وتركز على أوضاعهن، فسونيا مناضلة نسوية معروفة لها أفكارها التحررية، ثقافتها الواسعة واطلاعها على التجارب الغربية كان محفزاً لاختيار مواضيع والتطرق إلى نقاشات تكسر “التابو” الموجود وتسعى إلى سبر أغوار وكشف حقائق لعلها تغيّر الصورة النمطية عن النساء وتقدم للعالم العربي وجوهاً كانت مخفية ومهملة لكنها موجودة في كل الحقبات.

كانت سونيا رائدة سلام، هي واحدة من النساء اللبنانيات اللواتي كن يقفن عند السواتر الترابية في المتحف من أجل ازالتها وفتح الطريق بين البيروتين مع زميلتها المحامية لور مغيزل وغيرهما من المناضلات المثقفات الشجاعات اللواتي كن يردن إنهاء حرب أهلية قتلت ودمرت وفرقت بين اللبنانيين.

لم تكن سونيا ترد زميلاً أو زميلة أو تلميذة إعلام خائبين، عندما كنت أقول لها ان لا وقت لديها لحوارات كانت ترد: لا يمكن لي الا التجاوب ومد يد المساعدة. هكذا كانت سونيا تسعى الى معاونة كل الزميلات في القسم، سواء عبر علاقاتها الواسعة أو المساهمة في ترجمة أو الاستدلال على مصدر مفيد أو كتاب يفي بالحاجة، وكانت تتقبلهن جميعاً على إختلاف مواقفهن وآرائهن وتحترم خياراتهن على الرغم من تناقض الأفكار.

سونيا بيروتي هي في الأساس من آل عون من بلدة العيشية في جنوب لبنان، لكنها ولدت في الأشرفية وعاشت السنوات الأولى من حياتها وطفولتها هناك. تزوجت مرتين: المرة الأولى حين كانت طالبة جامعيّة من بشارة بيروتي الذي سافر بعد فترة قصيرة إلى ألمانيا لمتابعة تحصيله العلمي ثمّ انفصل الاثنان بعد خمس سنوات بسبب هذا البُعد. وتزوَّجت لاحقاً الراحل إحسان شاتيلا.

تنتمي سونيا بيروتي الى عائلة مثقفة كما تقول، ومنها اكتسبت حبّ قراءة الكتب والصحف والمجلات، وهذا ما ساعدها كثيراً في الكتابة فبدأت من الشعر ثمّ جرَّبت القصص.

عملت سونيا في مجال الصحافة وتحديداً في صحيفة “دار الصياد” التي كتبت فيها عشرات المقالات والتحليلات والمتابعات الاخباريّة. وانتقلت في فترة الستينيات الى العمل في “تلفزيون لبنان” حيث بدأت في إجراء أحاديث ثقافية واجتماعية. كما قدَّمت مجلة تلفزيونية تدورُ حول المعارض والأمسيات الشعرية وصولاً إلى مشكلات انقطاع المياه والمدارس.

تركت سونيا في وقتٍ ما “دار الصياد”، لكنها عادت إليها أكثر من ثلاث مرات لاحقاً، وحين صدرت مجلة “الحسناء” كُلّفت بإدارة تحريرها، وهذا ما فعلت بفضلِ الأفكار الكثيرة التي كانت تملكها عن تحرر المرأة، وتحوَّلت هذه الأفكار مع الوقت إلى الكلام والحديث عن الأزياء والطبخ لإرضاء المعلن والاعلانات والممول كما ذكرت سونيا لاحقاً. وتذكر أنها كلما تكلمت عن حقوق المرأة تظهر كأنها تخالف القوانين السياسية والشريعة وهو ما كان يضطرّها للانسحاب من مؤسسات عملت فيها.

في أوأئل الثمانينيات بدأت الكتابة في مجلة “فيروز” التي كانت مجلّة رائدة في التحرير والطباعة في العالم العربي.

ومع نهاية الحرب الأهلية بعيد اتفاق الطائف عملت سونيا في مؤسسة “اوجيه لبنان” في المكتب الاعلامي وكانت تحكي كثيراً من الحكايا الواقعية لترد فيها على من ينتقد مشروع الرئيس رفيق الحريري في إعادة إعمار وسط بيروت.

صدر لسونيا بيروتي عددٌ من الكتب لعلَّ أبرزها كتاب “مطاحن الطائفيّة” وهو بمثابة شهادة جمعت فيه الكاتبة اللبنانيّة تجاربها الحياتية خلال الحرب الأهلية بحيث إعتبرت الطائفية سبب كل علة وتُهدد بحروب آتية. كما صدرت لها مجموعة بعنوان “حبال الهوا”، “مواعيد مع البارحة” و”مدار اللحظة”.

قدمت برنامج “استديو الفن” من اخراج الراحل سيمون أسمر الذي صنع العديد من أسماء الفنانين، وكانت سونيا تدير دفة الحوار بثقافة عالية حول أداء المشاركين مع نخبة الفنانين الذين شكلوا لجان التحكيم.

وداعاً سونيا بيروتي… سنفتقد حضورك دائماً، وستبقين رمزاً اعلامياً مميزاً يا من كنت أرى فيها جورج ساند العالم العربي.

شارك المقال