وكشفت السنين الحقائق !

وليد طوغان
وليد طوغان

“الدوغماتية” هي الاعتقاد بامتلاك الحقيقة الوحيدة الصحيحة، فلا يقبل الدوغماتيكي نقدها، ولا تراوده الرغبة في نقضها.

” الدوغما” لفظ يوناني، معناه “حقيقة” أو “مبدأ” قبل أن تحولها المجامع المسيحية المقدسة إلى لفظ مرادف لـ”الحقيقة الوحيدة” أو “المبدأ الصحيح” الذي يخرج من يخالفه من الدين.

ظهر “الدوغماتيك” في فرنسا، وإنكلترا وألمانيا بعد انفصال الدولة عن الكنيسة بعد صراع شديد، لكن تلك المجتمعات كانت لديها الشجاعة للاشتغال والتحليل والنقاش والتفهم… ثم وضع النظريات في كل شيء… حتى الدين.

لذلك، تجاوز الغرب محناً فكرية كثيرة، لم تستطع أن تتجاوزها المجتمعات الإسلامية في الجانب الآخر من العالم .

في الصراع التاريخي، ورغم أن الغلبة كانت في الغالب للدوغماتيك ورجال الدين، الا أن في المقابل كانت هناك أفكار أخرى جديرة بالاهتمام، لكنها للأسف دخلت معارك ضارية ضد الدوغماتيك من رجال الدين.

في القرن الخامس قبل الميلاد أنكر “انكساغوراس” الطبيعة الإلهية للأجرام السماوية، الفكرة التي كانت سائدة بين كهنة اليونان ذلك الوقت. قال “انكساغوراس” أن القمر أرض، فيه جبال وطرق ووديان، وإن الشمس والكواكب أجرام ملتهبة.

كلام “انكساجوراس” كان صحيحًا، بُرهن عليه فيما بعد، لكن دوغماتيكيي الدين وقتها من محتكري الحقيقة المطلقة اتهموه بالإلحاد. فقد كان الثابت دينيً أن كل ما هو سماوي هو إلهي بالضرورة. وإن الخوض في مثل هذه المعتقدات بأي طريقة تؤدى إلى نتائج عكس الأفكار الثابتة، فهو إجرام في حق الدولة، وإلحاد في حق الله. وحاكموا “انكساغوراس” وحكموا عليه بالإعدام لأنه فكر، ما اضطره للهرب خارج أثينا يبحث عن آخرين يعرفون أن لعقولهم بعضاً من وظائف.

فى أثينا عام 450 ظهر “بروتاغوراس” وشن حربًا رهيبة على “الدوغماتيك” بكتاب اسمه “الحقيقة”. لكن وكالعادة لم تكن معركته متكافئة مع رجال الكهنوت

كان “بروتاغوراس” كأغلب الفلاسفة الذين ملّوا فكرة الحقيقة الواحدة، ورفضوا الانسجام مع التسليم باحتكار رجال اللاهوت للحقائق، على أساس تفسيراتهم هم للنصوص الدينية وليس حسب المقصود من النصوص.

في كتابه “الحقيقة” قال “بروتاغوراس” أن الإنسان مقياس الواقع، والحقيقة نسبية تتحدد حسب قناعات البني آدم. ورتب عدة نتائج اعترض عليها رجال اللاهوت، واتهموه هو الآخر بالإلحاد، إلى أن جاء “سبكتوس امبريكوس” في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي.

أطلق اليونان على “سبكتوس” لقب “التجريبي” أو الفيلسوف الذي يُخضِع كل فكرة للنقد والتجريب. وهو أنشأ مدرسته في “الشك” لاختبار “صحة الأفكار”. اعتبر “الشك” مدافع تقطع الطريق على “الدوغماتيك”. فالشكاك عكس الدوغماتيكي، والدوغماتيكي مرتبة أقل من الشكاك، لكن الأمر انتهى به كما انتهى بالآخرين.. لمصلحة “الدوغماتيك” ورجال اللاهوت… حيث المشنقة.

وفي القرن السابع عشر، توصل “غاليليو” إلى أن نظرية “كوبرنيكوس” في ثبات الشمس، ودوران الكواكب حولها صحيحة.

كان فكرًا جديداً وجديراً بالاهتمام. لكن “الدوغماتيك” الذين كانوا يحتكرون فكرة دوران جميع الأجرام السماوية، بما فيها الشمس على أساس تفسيرات الكتاب المقدس؛ اتهموا “غاليليو” بالإلحاد هو الآخر.. واوقفوه أمام محاكم التفتيش بوصفه واحدًا من الهراطقة والمجدفين… وأعدموه.

لكن بعد مئات السنين ظهر أن “غاليليو” كان محقاً. و”كوبرنيكوس” هو الآخر كان محقاً… وأن الذين ماتوا كانوا مفكرين… وأن الذين أعدموهم كانوا مغفّلين!

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً