ليندا مطر سيدة النضال… لم تهدأ ولم تهادن

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

رحلت ليندا مطر، مناضلة من زمن آخر، لا يمكن لجيل اليوم استيعابه، إذ أصبح ربما ذكراً منسياً مع إنهيار التجربة الاشتراكية. عملت من أجل تحصيل المرأة اللبنانية حقوقها في العمل وفي المشاركة السياسية، لكنها لم تكن ترى العنف المختفي الذي تتعرض له النساء في المنازل نتيجة القوانين التي تميز بين الرجل والمرأة والأعراف الاجتماعية المكبلة لانطلاقتهن، وعليه، عندما بدأت الحركات والجمعيات النسوية تتحرك في العالم تحت عناوين مناهضة العنف الأسري ضد المرأة أو إدخال مفهوم الجندر الى قاموس النضال النسوي، استغربت هذه العناوين قبل أن تنخرط لاحقاً في محاولة فهمها، لكنها فضلت دوماً خوض معاركها من أجل إصلاح أوضاع المرأة من خلال العمل السياسي المقنع بهيئات نسائية لا تخرج عن طوع الحزب الشيوعي الذي ناضلت في صفوفه وتأثرت بأفكاره.

إسم ليندا مطر لا يمكن أن يمحى من التاريخ النضالي النسوي في لبنان، على الرغم من أنها لم تكن نسوية ولا الجمعية التي ترأستها خلال سنوات طوال وكان لها دور مميز لا سيما خلال الحرب الأهلية، لا بل كانت ترفض النسوية ولا تتعامل مع منظماتها في دول العالم الحر والمجتمع الليبرالي أو تؤيد شعارات من يرفعها في العالم العربي من المفكرات والأديبات والمناضلات اللواتي سعين في فترة الى قيام حزب نسائي عربي، وعلى رأسهن المصرية نوال السعداوي والمغربية فاطمة المرنيسي قبل أن تسقط هذه المحاولة نتيجة رفض المرنيسي التمويل من الخارج على حد ما تردد.

كانت ليندا ترى أنه بمجرد تغيير النظام السياسي تتغير أوضاع النساء تلقائياً، ومن هنا قولبت نضالها في إطار ما يخدم الهدف السياسي، وربما لم تعش في حياتها الشخصية وفي مجتمعها العائلي وصداقاتها ما كان يروى لها عن أحوال النساء المزرية نتيجة التقاليد والعادات المكبلة والقوانين المجحفة بحقها، التي تكشفت لاحقاً بجهود من الأمم المتحدة وعبر دعم دراسات ونشاطات بيّنت الهوة العميقة بين حقوق المرأة والرجل.

إمراة صلبة، قد تتفق معها وتختلف، كانت هادئة وليست من اللواتي يرفعن أصواتهن لفرض رأيهن، تناقش بمرونة ومن دون إدعاء بالمعرفة، تأخذ وتعطي، وتتقبل الأفكار بإنفتاح، إمراة صادقة، ذكية، صلبة وحاضرة تعرف طريقها ولا تضيع بوصلتها. تجربتها كبيرة انسانياً ونضالياً، عاشت حياة ملأى بالاختبارات ولم تكن تحب الثرثرة والاستعراض، بل تركز على معالجة الهموم التي تحيط بالوطن وإنسانه والمرأة كجزء منه، فحريتها مرتبطة بالتحرر الوطني وبتحقيق نظام العدالة الاجتماعية.

ترأست مطر لجنة حقوق المرأة في لبنان منذ العام 1978 الى أن استقالت من منصبها في العام 1996، حققت خلالها إنجازات عدة أبرزها حق الانتخاب والسفر من دون اذن الزوج، وحق ضمان المرأة العاملة لأطفالها، وتعديل القوانين المتعلقة بجرائم الشرف وتوقيع اتفاقية الغاء التمييز ضد المرأة، ولاحقاً كما الأحزاب الشيوعية إنهارت هذه المنظمة مع انهيار الاتحاد السوفياتي.

عاشت في كنف عائلة بسيطة، واضطرت الى ترك مقاعد الدراسة لمساعدة أهلها. عملت في مصنع لصناعة الجوارب والحرير مقابل أجر زهيد، ودرست ليلاً حتى نالت الشهادة الثانوية. ناضلت في صفوف “الشيوعي” عشرين عاماً قبل أن تستقيل منه وتتفرغ للاهتمام بحقوق المرأة.

ولدت مطر في 25 كانون الأول/ديسمبر العام 1925 في منطقة خندق الغميق، من أم خمسينية، ما أثار دهشة أهالي الحي لهذه “المعجزة الإلهية”، وجرى تعميدها في دير الناصرة (الأشرفية). تزوجت في السابعة عشرة من عمرها من بيزانت بانجاريان، ولديهما ثلاثة أولاد (أرمين ولوسين ورافي). لم يكن بانجاريان يتقن العربية لكنه كان مقرباً من الشيوعيين الأرمن، وكانت ليندا تقرأ له صحيفة الحزب الشيوعي “صوت الشعب” الصادرة بالعربية.

أولى أسفارها في العام 1950 الى ألمانيا لحضور مهرجان الشباب العالمي بدعوة من إتحاد الشباب الديموقراطي العالمي. وعندما عادت سجنت لمدة ثلاثة أيام إثر تنظيمها ندوة في الحي الذي كانت تقيم فيه (عين الرمانة) للحديث عن أهمية هذا المهرجان الأممي. وكان همها تعديل القوانين التي تميز ضد المرأة، ومنذ العام 1952 انضمت إلى صفوف لجنة حقوق المرأة اللبنانية وعملت على تنظيم تحركات من أجل إعطاء المرأة اللبنانية حق التصويت والترشح للمناصب العامة. خاضت المعركة الانتخابية النيابية في العام 1996، وكانت وقتذاك تشغل منصب رئيسة “المجلس النسائي اللبناني”، وحصلت على 8000 صوت في العاصمة، الا أن دعم النساء لها لم يكن بالمستوى الذي أملته على الاطلاق. من هنا، ذهبت نحو تبني شعار “الكوتا” وإدراجها في قوانين الانتخاب، كما ترشحت في العام 2000 ولكنها انسحبت قبل يوم واحد نتيجة حدة الصراع الانتخابي الذي جرى آنذاك.

كرّمتها مئات الهيئات والجمعيات المدنية اللبنانية وشكّلت نقطة إلتقاء بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، وعلى الرغم من انقساماتهم، ونالت وسام الأرز الوطني من رتبة فارس عام 1998 ووسام الأرز الوطني اللبناني أيضاً عام 2010 وغيرهما من الأوسمة، ولقبت بـ “رائدة العمل النسائي” عام 2002. اختارتها مجلة “ماري كلير” الفرنسية في العام 1995 من بين 100 إمرأة يؤثرن في العالم، كذلك كانت عضوة في قيادة الاتحاد النسائي العالمي، وعند تأسيس المجلس الاقتصادي – الاجتماعي في لبنان، فوجئ المجتمع الأهلي بضمها اليه.

كثير من الأسرار لم تفصح عنها في كتاب عن سيرتها الذاتية، وذهبت فيه الى الماضي البعيد وليس إلى السنوات الثلاثين الأخيرة فقط. لم تتحدث عن الحرب الأهلية أو عن “بوسطة عين الرمانة” والدماء التي سالت قرب منزلها وأمام عينيها. وظلت مؤمنة بمبادئ “الاشتراكية”، ولطالما اعتبرت أن عدم تقدم النساء “هو نتيجة النظام الذكوري المؤطر بقوانين تمنح الرجل سلطة السيطرة وقمع المرأة، بحجة العادات والتقاليد”.

شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية لا سيما المتعلق منها بأوضاع النساء والحرب والسلام العالمي، وكانت تؤكد على الدوام أن “القضايا الوطنية العامة لا يمكن أن تكون من اختصاص الرجال، فللمرأة موقف وبيّنت التجربة أن العمل العام يساعدها على تحقيق ذلك”.

برحيلها اليوم طويت صفحة نضالية امتدت من معركة استقلال لبنان وحققت الكثير من الانجازات بفعل نضالات نساء لبنانيات كانت ليندا رائدتهن طوال سنوات، ولا شك في أنها شكلت مدرسة لجيل من النساء يتعلم منها من أجل السير نحو المساواة والتغيير.

 

شارك المقال