“الفيدرالية” وعودة المكبوت التاريخي

يارا عرجة
يارا عرجة

يعتبر المُحلّل النفسي سيغموند فرويد أنّ “الكبت” عملية نفسية، يقوم “الأنا” بموجبها بتنقية الأحداث والغرائز البيولوجية لنقلها من دائرة “الوعي” إلى دائرة “اللاوعي”، كي يحقق نوعاً من التوازن بين الغريزة والقيم الاجتماعية. في مقابل تحليل فرويد للشخصية الفردية، يتحدّث غوستاف يونغ عن “اللاوعي الجمعي” الذي ينجم، عكساً عن “اللاوعي الفردي”، عن تجارب المجموعات مع مرور الزمن. انطلاقاً من هنا، تتشكّل “البنية اللاشعورية” التي ترسم ملامح المجموعات والشعوب على أساس المكوّنات المشتركة متحكّمة تالياً بسلوكها. يمتد “اللاشعور” للجانب السياسي بحسب المُفكّر الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه الذي ابتكر مصطلح “اللاشعور السياسي” وهو يعني بذلك سيطرة المخيال ومُجمل الرموز بشكل لاواعٍ على الأنظمة السياسية. في هذا الإطار، استعان العلماء والمحللون السياسيون بهذه المفاهيم لتحليل السلوك السياسي في بعض الدول والمجموعات.

تأثّر “اللاشعور السياسي” في الغرب على صعيد المثال أيّام العصور الوسطى، بالفتوحات الإسلامية في عهد الرسول محمّد، وما تلاه من حروب خاضها المسلمون ضد البيزنطيين والصليبيين، أدّت إلى توسّع الأراضي الإسلامية مقابل سقوط بيزنطة وفقدان إقليمها في الشام وشمال إفريقيا ومصر ووصول العرب إلى الأندلس ونشر الدين الإسلامي وتعليم اللغة العربية. منذ ذلك الحين، يُهيمن “الحذر” من الإسلام والعرب في “اللاوعي الجمعي” و”اللاشعور السياسي” لدى المسيحيين والغرب الذين رأوا في الشرق والعرب والمسلمين من جهة، حضارة تُذهلهم بثقافاتها وتقاليدها (كقصص السلاطين وحريمهم والحمّام العثماني الذي شكّل مادة بارزة تناولتها العديد من الرسومات الفنيّة والكتابات الأدبيّة كألف ليلة وليلة) وتُهددّ كيانهم بطموحها السياسي والعسكري من جهة أخرى.

يندرج في هذا السياق مفهوم “المكبوت التاريخي” (الذي يظهر عند الشعور بالخطر) في أحشاء الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، أي بين المسلمين والمسيحيين. الصراع الذي تأجّج مع التغلغل الإسلامي في القارتين الأوروبية والآسيوية والحروب العثمانية، الحرب ضد الإرهاب وصولاً إلى الحرب الباردة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. تحوّل هذا الصراع اليوم إلى صراع هويات ومعركة وجود في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيّما في لُبنان، الذي كان ولايزال أرضاً للصراعات الإقليمية بسبب تنوّع هويّات شعبه وطوائفه.

كلّ شيء بدأ مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 ومدحهم لنسيج المُجتمع اللبناني المُتميّز بتعدديته الطائفية. فكانت حصيلة المئة عام من تاريخ لبنان الدولة، مكتبة من الأعمال الأدبية والفنيّة التي تُغنّي التعايش مع الآخر، ونظاماً سياسياً مُهترئاً وحروباً وأزمات اقتصادية، وكذبة العيش المشترك. فالتعدديّة الطائفيّة “النعمة” هي أيضاً “نقمة” على اللبنانيين، إذ تلجأ كلّ طائفة إلى الخارج للسيطرة على الطوائف في الداخل. وكذلك يستغلّ الخارج بعض القضايا لإثارة النعرات الطائفية في البلد، فيجعل من لبنان “قطاعاً” في إمبراطوريته. من هنا ظهرت “الفيدرالية” في لبنان حيث تعمل بمثابة “مكبوت تاريخي” مُقترن بالأزمات السياسية والوجودية عبر الزمن. كيف لا وقد سبق للقوات اللبنانية أن طرحتها كمخرج للبنان من الحرب الأهلية قبل اتفاق الطائف.

أمّا اليوم، فيُثير اليمين المسيحي طرح “الفيدرالية” من جديد كحلّ للأزمة اللبنانية وكلّه شوق إلى “الوطن المسيحي”. في هذا الإطار، نربط بين “الفيدرالية” ومصطلح “عودة المكبوت” أو “le retour du refoulé” الذي كتب عنه فرويد، للتنويه “للحذر” والخوف من الآخر الذي يعود ويعتري الشارع المسيحي بعد ما يقارب الثلاثين عاماً على “كبته” في “اللاوعي الجمعي” المسيحي اللبناني. ففي ظلّ الأزمات التي تعصف بلبنان، يزداد الشرخ بين المواطنين، لا بل بين الطوائف التي لا تزال تحافظ على خطوطها الحمر، فتقوم كلّ طائفة أو كلّ مجموعة بتحميل مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي للأخرى. يرفض اليمين المسيحي المسّ بمقام رئيس الجمهورية وإن كانت له الكتلة النيابية الأكبر في المجلس، وإن كان جزءاً من السلطة، وإن كان يضع يده على الملف الحكومي ضارباً بعرض الحائط الدستور اللبناني، وإن كان مسؤولاً كغيره من المسؤولين عن الانهيار. دفاعاً عن “القضية” وعن “حقوق المسيحيين” أصبح “التعايش” مع الآخر مرفوضاً. فعن أيّ انفتاح وتقبّل للآخر يتحدّثون؟ كما أنّ توقيت الطرح غير بريء، فهو يأتي تزامناً مع قرب انتهاء ولاية المجلس النيابي ورئاسة الجمهورية في ظلّ غضب شعبي عموماً ومسيحي خصوصاً قد ينفجر في أيّ لحظة، ما يجعل أحزاب اليمين تلجأ لسياسة “شدّ العصب” لحماية “الجمهورية القوية” وتأمين ديمومتها في الانتخابات المقبلة عبر تهيئة الكانتونات المسيحية.

يرفض المسيحيون المناهضون للتيار والقوات هذا الطرح، وكذلك السُنة الذين يتشبّثون أكثر بالطائف والشيعة أيضاً، لأنّها ستحصر “حزب الله” في مناطقه، فيخسر غطاء الطوائف الأخرى. هذا من مبدأ وجهات النظر. أمّا عملياً فمن المستحيل تطبيق “الفيدرالية” في الوقت الحالي لأسباب عديدة أبرزها دستورية، إذ تؤكّد الفقرة “ط” من مقدمة الدستور أنّ “أرض لبنان، أرض واحدة لكلّ اللبنانيين [….] فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”. كما يحثّ الدستورعلى نزع عباءة الطائفية على عدة مراحل، بعكس “الفيدرالية” التي تعزز الانقسام الطائفي. فهل حقوق المسيحيين فوق الدستور أيضاً؟ أضف إلى ذلك الأسباب الديموغرافية والجغرافية، إذ لا تنحسر الطوائف اللبنانية في مناطق معيّنة لا بل تمتد وتنشتر في جميع المناطق اللبنانية حتى تختلط ببعضها البعض. تصطدم “الفيدرالية” كذلك بالعائق الإداري والاقتصادي بسبب المركزية الإدارية التي تتمتّع بها بيروت حصراً، فتحتاج سائر المناطق للتأهيل وإنشاء المشاريع الاقتصادية كتشغيل المنطقة الاقتصادية في طرابلس، وفتح الجامعات وخلق فرص عمل وإحياء بعض المرافئ مثل مطار القليعات في عكار… باختصار يسعى اليمين المسيحي لتفكيك ما تبقى من لبنان الدولة، بدلاً من العمل على توسيعها وتقويتها في هذه الظروف العصيبة، وهم يقدمون “الفيدرالية” كبديل عن الحرب الأهلية، لابل قد تكون الوجه الآخر لها، إذ تقوم على نفس مبدأ التفرقة. نحن نتفرّق داخلياً فيما تتساوم الدول على حساب أرضنا ومصالحنا ومواردنا والآن معيشتنا. فمن الرابح؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً