الطرابلسيّون يُودّعون رمضان بمهرجان فرح روحانيّ!

إسراء ديب
إسراء ديب

لا يُمكن لمدينة طرابلس أنْ تستكين في شهر رمضان المبارك، ففي هذه الفترة الزمنية المقدّسة، لا يترك الطرابلسيون يوماً إلّا ويستغلّونه بغية إحياء روحهم الايمانية وشغفهم بالحياة خلال 30 يوماً في عام واحد كان مليئاً بالضغوط المعيشية والهموم الاقتصادية التي حوّلتهم إلى أفراد مثقلين بالهموم المتراكمة.

وكما استغلّ أبناء المدينة هذه الأجواء الروحانية منذ بداية حلول هذا الشهر عليهم مع الزينة الرمضانية وعودة المسحراتي إلى طرقاتهم وأحيائهم التي غرقت في الاهمال والظلام لأعوام، استغلّوا أيضاً نفحات العشر الأواخر من هذا الشهر بطقوس رمضانية أصيلة لم يتخلّ أيّ منهم عنها، بل كانت ولا تزال عادات موروثة توحي بقرب انتهاء هذا الشهر الذي يُحافظ الطرابلسيّون على رونقه وهيبته المستمرّة بموروثات تنفرد المدينة باحتضانها منذ أكثر من 300 عام.

وقبل ساعات تسبق انتهاء شهر رمضان الذي حلّت معه البركة والخير على الطرابلسيين، تجول فرق “الوداع” في مختلف المناطق في المدينة لتزور المحال والمنازل حيث تجمع الصدقات من الناس الذين يدفعون مبالغ ولو رمزية لصاحب الفرقة الذي عادة ما يرافقه شباب الجوقة الذين يحملون الطبول، الدفوف، الصنوج أو المزاهر ويُردّدون أناشيد، موشحات ومدائح نبوية بمشاعل، مصابيح وفوانيس تجذب الكبار والصغار الذي يُتابعون هذه الفرق وهي تصدح بالأذكار الدينية التي تُلين قلوب المؤمنين وتُفرح البيوت التي تخترق سكون ليلها حيناً، وانشغالها بالهواتف الجوّالة ومواقع التواصل الاجتماعي حيناً آخر.

إنّ بعض هذه الفرق التي تنقسم ضمن مناطق معيّنة، منها: آل بارودي في الزاهرية والمئتين، آل منوري لمنطقة أبي سمراء، آل الخولى لمنطقة الضم والفرز، وآل الزاهد لحارة البرانية والقبة، كما آل اللوزي والغندور وغيرها من العائلات، كانت تجول في الأسبوع الأخير من الشهر الفضيل، إلا أنّ الكثافة السكانية في المدينة دفعت هذه الفرق – أو من تبقّى منها – إلى البدء بجولاتها باكراً أيّ في العشر الأواخر أو بعد النصف من رمضان لتتمكّن من متابعة هذه الكثافة التي تضاعفت بعد النزوح السوري في الأعوام الأخيرة، فيما يُعارض أبناء المدينة دخول بعض الفرق الجديدة التي قد تكون غريبة عنها أو قد يكون القائمون عليها من صغار السنّ ويقوم بعضهم بتسيير جولاته في بداية شهر رمضان، وهذا ما يرونه غير مناسب ولا يتوافق مع هذا الموروث التاريخي الرائج الذي لم يُؤسّس ليكترث بالربح المادّي.

تاريخياً، تُؤكّد المراجع أنّ فرق الوداع المستمرّة بوجودها ميدانياً لكنّها تغيّرت في الشكل والأداء عموماً، ظهرت في عهد السلطان صلاح الدّين الأيوبي الذي أقرّ العمل على هذه “النوبات” التي رآها قد أدخلت السرور الى قلب الرسول محمّد (ص) بعد استقبال أهالي المدينة المنوّرة له بشعار “طلع البدر علينا”، فبدأ الناس بتداولها والعمل بها كذكر لها أو استخدامها في المناسبات والأعياد.

ومن هذه النوبات، تسلّم مشايخ متخصّصون ينتمون إلى عائلات طرابلسية عملية التبشير بقدوم عيد الفطر لينبثق عن هذه النوبات التي تُعدّ صوفية فرق “الوداع”، فكان الشيخ الراحل حسن القدّوسي هو المسؤول الأوّل عنها (يحمل فرماناً من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني)، إذْ عمل على تأسيس هذه الفرق التي كان يرأس كلّ واحدة منها “شيخ طريقة صوفية” وتمّ توزيعها بين المناطق، ليتحمّل نجله الشيخ توفيق القدّوسي هذه المهمّة التي حملها أيضاً حسن القدّوسي الحفيد، بمشاركة عائلات ذكرت مسبقاً كآل الزاهد واللوزي التي لا تزال تُحافظ على هذا التقليد الذي قد يتعامل البعض معه على أنّه مجرّد “عادة” أو مهمّة سنوية يبتغي البعض منها الربح، فيما يرى آخرون أنّها تُعطي لرمضان في المدينة نكهة مميّزة.

إلى ذلك، يُرحّب مواطنون أيضاً بالفرق الموسيقية التابعة لجمعيات كشفية وهي تقوم بالتجوال أيضاً في المدينة عبر إطلاقها مسيرات دينية تزيد من روحانيات هذا الشهر في أواخره.

في السياق عينه، لا تخلو الأسواق التجارية من زبائنها على الرّغم من غلاء البضائع المختلفة فيها، إذْ يتهافت آلاف المواطنين لا سيما بعد النصف من رمضان على زيارة كلّ المحال ويقوم بعضهم بالتفتيش عن البضاعة الرخيصة من جهة، فيما يقوم البعض الآخر بشراء مختلف الاحتياجات لا سيما الأساسية منها من جهة ثانية، وذلك لاستقبال العيد في وقتٍ لا يُخفي فيه الطرابلسيون غصّتهم الكبيرة عند شعورهم برحيل رمضان الموجود حالياً في “محطّة المغادرة”، بحيث يُدركون تماماً أنّ البهجة والبركة اللتين حلّتا عليهم في هذه الفترة لن تستمرّا طويلاً، وأنّ القلق سيعود إلى أرجاء هذه المدينة من جديد بعد “كف يدّ” المغتربين أو الجمعيات الانسانية والخيرية عنها قطعاً.

في الواقع، لم يرحم الغلاء المعيشي أحد في المدينة التي تمكّنت من الصمود والوقوف على “رجليها” قدر المستطاع هذا الشهر، لكن ما يُمكن رصده أخيراً، أنّ الناس لم تمتنع عن زيارة الأسواق والشراء، وبالتالي فإنّ أجواء الزحمة الشديدة التي شهدتها والاقبال على الشراء والبيع في الأيّام القليلة الماضية، تُعدّ أيضاً أحد طقوس رحيل هذا الشهر.

وعلى الرّغم من حديث البعض عن غلاء الأسعار الذي يطال الثياب حتّى تلك الموجودة في البالة (حيث كان يرتاح الفقراء) والتي لا يتحدّث القائمون عليها بأقلّ من 10 أو 15 دولاراً للقطعة، إضافة إلى غلاء سعر الحلويات كالشوكولا الذي لا يقلّ ثمن الكيلو منه عن 8 دولارات (الأقلّ جودة وقد يصل إلى 13 دولاراً وأكثر)، مع تعلّق التجار المستميت بالدولار وتحوّل المدينة بسبب الجشع من “أم الفقير” إلى “أم الدولار”، لا يُخفي مواطنون أنّ هذا الشهر كان من أجمل الشهور التي مرّت عليهم، إذ لم تمنعهم الظروف الاقتصادية من الانخراط في هذه الأجواء التي يتمتّع بها الصغار قبل الكبار في الأسواق القديمة منها والحديثة.

ولا تخفى “الغصّة” التي يعيشها الكثير من المواطنين الذين اعتادوا على ارتياد المقاهي التي شهدت طيلة هذا الشهر زحمة خانقة، لا سيما قهوتا “موسى” في باب الرمل و”فهيم” في ساحة التلّ الشعبيتان، إذْ ستعود كلّ منها كما كلّ مرفق أحياه رمضان، إلى حالٍ من السبات العميق التي لا يُؤرقها نداء استغاثة لاعادة إحيائه، بل كان هذا الشهر ولا يزال كفيلاً بتنشيط ما جمّدته السياسة والاهمال في البلاد.

شارك المقال