الأثر النبوي في طرابلس: خاتمة مباركة لشهر الخير والأهالي ينتظرون إنصافه!

إسراء ديب
إسراء ديب

لا تستكين مدينة طرابلس في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك الذي تفصلنا أيّام قليلة عن رحيله، إذْ تتنوّع الشعائر الدينية والعادات الشعبية والاجتماعية التي يتمسّك بها الطرابلسيون خلال هذه الأيّام وقبيل استعدادهم لإحياء طقوس عيد الفطر، وذلك يقيناً وإيماناً منهم بآية: “وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”.

وبعد اعتياد الطرابلسيين طقوس المسحراتي، فرق الوداع، صلاة التراويح وازدحام المقاهي بروّادها حتّى الفجر، استقبلوا منذ ساعات نفحات روحانية إضافية مع زيارة الأثر الشريف في المسجد المنصوري الكبير، الذي ضجّ بالزائرين بعد صلاتيّ الفجر والعصر وسط أصوات التسابيح، والصلاة على النبيّ والمدائح.

يُمكن القول، إنّ هذه الزيارة “خاتمة الخير” لشهر الخير، إذْ تتمثل في رؤية شعرة من لحية النبيّ محمّد، بعدما كان الصحابة يجمعون قصاصة من شعره بعد حلقه رأسه أو لحيته، ووفق الروايات الدّينية، فإنّهم لم يتركوا شعرة على الأرض إلّا والتقطوها، فكان لطرابلس منها نصيب، لذلك تُعرض في الجمعة الأخيرة من رمضان كما جرت العادة منذ زمن العثمانيين.

ويرتبط المؤمنون بشدّة بهذا التقليد السنوي، على الرّغم من الانتقادات المختلفة التي تطال نقل الأثر إلى خزنة دار الفتوى لحمايته، والحديث في المقابل عن “مصادرته” من الدّار، في وقتٍ لا يحتاج فيه هذا الأثر إلى حماية أساساً بسبب صيانة الغرفة في المسجد أمنياً ضدّ الحرائق، السرقة والرصاص (وذلك بعد قيام وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا”، بترميم غرفة الأثر وتأهيلها بوسائل تقيها من كلّ ما يُمكن أن يمسّ بها، عبر وضعها كاميرات، أجهزة إنذار إضافة إلى زجاج مضادّ للرصاص)، ما دفع العديد من أبناء المدينة إلى توقيع عريضة قُدّمت الى دار الفتوى لإعادة الأثر إلى غرفة الأثر، أيّ إلى مكانه الأصليّ، بعيداً عن الحسابات أو الخروق التي يُمكن أن تُرتكب لتمسّ هذه “الهالة” الدّينية، التي تتميّز بها المدينة منذ 135 عاماً لم يتجرؤ فيها أحد على سرقة هذه القيمة الدينية حتّى في “عزّ” الأزمات الأمنية.

وفي وقتٍ ينتظر فيه أهالي المدينة، إصدار القرار الدينيّ الذي يُبيح إعادة الأثر، يُمكن التأكيد أنّ الطرابلسيين لا يُمكن أنْ يتخيّلوا قرب انتهاء شهر رمضان، إلّا بإتمام هذه الزيارة التي تُتيح رؤية الشعرة الشريفة التي أهداها السلطان عبد الحميد الثاني إلى طرابلس تقديراً لولاء أهلها.

تاريخياً، لم تكن الهديّة موجّهة إلى جامع المنصوري الذي يقع في قلب المدينة تحديداً، بل إلى جامع الحميدي في الزاهرية والمعروف باسم مسجد “التّفاحي” قديماً، وقد تغيّر اسمه إلى الحميدي ارتباطاً وتيمّناً بالسلطان. وفي سنة 1891 تمّ تجديد الجامع، وللاحتفال بهذا التجديد، طلب الطرابلسيّون من السلطان العثماني السماح لهم بإتمام ذلك، ليُصدر لهم براءة تعيين خطيب للجامع، فأهدى السلطان أثر الرسول إليهم كفرصة لمكافأتهم، وذلك وفق المؤرّخ الدكتور عمر تدمري، نقلاً عن شيخ قرّاء طرابلس الراحل محمّد نصوح البارودي.

وفي علبة من الذهب الخالص حملها باشا عثماني، وصلت فرقاطة عثمانية خاصّة تحمل هذه الشعرة إلى الميناء، وخرج أهالي المدينة بمسلميها ومسيحييها، بعلمائها ومشايخها لاستقبالها بفرحة كبيرة، وتسلّمها حينها الشيخ حسين الجسر ووضعها على رأسه ليحملها إلى الجامع الكبير بعد قيام الشيخ علي رشيد الميقاتي بإقناع رجالات المدينة بوضع الأثر في المسجد المنصوري الكبير “لكونه أكبر مساجد المدينة، ولكون جامع الحميدي بظاهر البلد في ذلك الوقت”.

وعلى الهلال الذهبي الذي يُشكّل غطاء الأثر، كُتب: “أهدى هذه الشعرة المكرّمة مولانا السلطان عبد الحميد خان سنة 1309 بعنوان (لحية سعادت)، منحنا الله شفاعة صاحبها الأعظم (صلّى الله عليه وسلّم) / الموجّه عليه خدمتها محمد رشدي ميقاتي”. وحول الأنبوب الذي يحتوي الشعرة، نُقش بيت من الشعر وفيه: “لم تُعط في كلّ العوالم شعرة خُلقت جميع الكائنات لأجلها”، وفق تدمري.

إنّ الأثر الذي خصصّته تركيا للمدينة، غيّر حالها ودفع أهلها إلى تزيين شوارعها لمدّة 7 أيّام، مع استمرار حلقات الذكر، الاحتفالات الدّينية وتوزيع الطعام، لذلك، لم تكن هذه الفعاليات عادية أبداً منذ لحظة دخولها إلى المدينة حتّى اللحظة، فانتقلت ببركتها من جيل إلى جيل، تحت مظلّة دار الفتوى ودائرة الأوقاف الاسلامية التي ترعى هذه الشؤون شمالاً والتي ينتظر منها أبناء المدينة قراراً يُنصف هذه الهدية المباركة.

كلمات البحث
شارك المقال