” الجرميشة”… ضيعة ضايعة في الزمن اللبناني

راما الجراح

تكاد تحسبها من بقايا تراث العصر الحجري أو ما شابه ذلك، قرية لم تلمسها المدنية الحديثة في العديد من جوانبها الحياتية والتكنولوجية والحاجات الإلزامية، مجهولة عند غالبية سكان لبنان، حتى إنها تصلُح للاستكشاف والغوص في تفاصيل أسرارها المخفية عن الأعين والتي نسيها الزمن.

قرية “الجرميشة”، عشيرة الهرامشة، قرية هادئة وادعة، عدد بيوتها تسعون، تاهت عن طريق لا يصل إليها. في مثلث الحرمان أوقعها فخ الطائفية البغيض، عروس البقاع زحلة تبعد عنها خمسة كيلومترات، تقع في نقطة وسطية بين بلدات الفرزل، أبلح، ورياق، إلى جانب مطار رياق مباشرة. أما الطريق الموصل إليها فهو بطول ١٦٠٠م، تقابلك فيه ١٦٠٠ حفرة، بعضها يبتلع سيارة صغيرة. وإذا راودتك فكرة زيارة القرية، فعليك التفكير بكلفة صيانة سيارتك فور العودة!.

منذ سبعينيات القرن الماضي، لم يحظَ الطريق الموصل إليها، بمتر مربع من الإسفلت. بعض وجوه العشيرة “حسين العلي وحاتم الحربي”، طرقوا أبواباً كثيرة، ومنها باب محسن دلول ومحمود أبو حمدان الوزيرين السابقين، بالإضافة إلى أبواب رؤساء البلديات المحيطة، ولكن من دون جدوى، إذ تبين لاحقاً أن انتماء هذه القرية إلى طائفة بعينها هو سبب الحرمان، وأكثر من ذلك، فإن البلديات المحيطة رفضت حتى تسجيل الأهالي ضمن قاطنيها عند صدور مرسوم التجنيس الأخير، وأيضاً لانتمائهم الطائفي، ما جعلهم يتشتتون في تسجيل قيودهم من بلدة قب الياس البقاعية إلى جديتا والدلهمية.

ويقول لنا حسين العلي: “نحن (سكان الجرميشة) لبنانيو الأصل، ومن سكان بلدة المعلّقة بالأساس. منذ عشرينيات القرن الماضي وأجدادنا يحملون الهوية اللبنانية، ولكن لبساطتهم لم يسجلونا، خوفاً من الخدمة العسكرية. وهكذا، وبسبب الترحال، وعلى مرور الزمن، ضاعت قيودنا وأصبحنا من دون سجلات”.

ويوضح: “هناك محطات إيجابية ثلاث بخصوص الطريق الذي يشبه كل شيء إلا الطريق، حصلت بكل تاريخ هذه البلدة الحزينة، الأولى إرسال رئيس دائرة الأشغال السابق المهندس إبراهيم الرفاعي لجنة للكشف على الطريق، فتبين أنه مملوك من سكة الحديد (القطار) وليس باستطاعة الأشغال فعل أي شيء. الثانية مساهمة رئيس بلدية قب الياس السابق فياض حيدر بنحو ثلاثين نقلة ردم، وهذه الأمور حصلت منذ ٢٠ عاماً. والثالثة والأخيرة منذ عامين وباتصال من مدير دائرة الأوقاف في البقاع الشيخ محمد عبد الرحمن الذي أرسل المتعهد “أبو حمود بلدوزر” ومسح الطريق للتخفيف من المعاناة التي نعيشها، أو إذا صح القول نحاول التعايش معها”.

وعن مشكلة المياه، قال: “الماء في البلدة عملة نادرة، السيارات أنهكها طريق الآلام، حتى تكاد لا تعرف لونها وشكلها، هذه السيارات تعتبر الناقلة اليومية لكميات هائلة من الغالونات من أقرب سبيل أو عين جارية ليروي أهل القرية ظمأهم منها”.

ويلفت العلي إلى وضع الأهالي شارحاً: “الفقر المدقع وسوء التغذية يجعلانك ترى شيخوخة مبكرة في وجوه الفتية والشباب، حتى طقوسنا الدينية ولأمد قريب كانت غريبة على غالبيتنا بعض الشيء، لولا تبرع أحد أفراد العشيرة “حاتم الحربي” بقطعة أرض لبناء مسجد””.

أما عن وضع التعليم فقال: “المدرسة حلم الأجيال التي لم تولد بعد، فالأميّة تجتاح غالبية الشباب في قرن بدأنا فيه مرحلة السكن على المريخ”، مشيراً إلى أن “البلديات المجاورة لا تبالي ولا يعنيها أي أمر بخصوص قريتنا اليائسة البائسة، لأن النتيجة الربحية غير متوفرة، كوننا كـ “جرميشيين” لا نقترع عندهم”.

وعلى درب الجلجلة الطويل، فإن التباينات لا زالت تعصف بمجتمع ترنّح وأُثخن بجراح طعنات طائفية ومناطقية بغيضة، إنه درب الآلام لقرية وأناس آمنوا بوطنهم وبلدهم وتجذّروا فيه منتظرين أمل قيامة قريبة ترفع عنهم البؤس والحرمان.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً