الهجرة إلى تركيا… من المآسي إلى جراحات الاغتراب

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

كانت تقف حائرة في مطار رفيق الحريري الدولي، تحمل الكثير من الشنط القماشية بالإضافة إلى الحقائب الكبيرة، ومعها ابنة صبية في الرابعة عشرة من عمرها، هي أيضا تمرر عينيها على لائحة حركة الطيران، تسأل هذا وذاك أين نقف، نريد الذهاب الى أضنة. كانت قد نسيت انها جاءت باكرا وأن عليها أن تنتظر مع أغراضها في بهو المطار حتى يحين الموعد لكن يبدو أن هناك من يتابعها هاتفياً، إنهما الزوج والولد، لقد بقيا في لبنان، أما هي مع ابنتها فستذهبان الآن وحدهما إلى أضنة، أولا لتدبير الأمور وبعد شهر يحضر الأب والابن.

تروي لنا قصتها: “أنا من “قب الياس”، لم أسافر قط ولا أعرف إجراءات المطار، أريد الخروج من هذه الجحيم.. لم يعد لنا وطن بعد الآن.. إنه سوء الحظ أننا ولدنا وعشنا وحلمنا بقيامة ما تجذرنا في أرضنا… لكن انظري ماذا فعلوا بنا”؟

تدمع عيناها الملونتين كفراشة وتربط شعرها بشريطة حمراء تناولتها من يد الابنة. الطقس حار وهنا مطار ليس بمطار، فجأة تنقطع الكهرباء، إجراءات السلامة والتفتيش اختُصرت كثيراً، هناك آلة سكانر واحدة عند الدخول تعمل فقط ولم يعد هناك تدقيق مشدد كما من قبل. وتقول: “نحن ذاهبون من دون عودة، إذا تيسرت أمورنا، تخيلي لم أستطع وداع عائلتي التي تسكن في بعلبك، أبي قال لي: ليس لدي بنزين لأحرك السيارة، وبكى على الهاتف، أنظري إلى أين أوصلونا”!

هل تدبرتم منزلاً… ولماذا أضنة؟ تجيب: “بحثنا عن منطقة رخيصة في تركيا فإمكاناتنا لا تسمح لنا بالعيش في اسطنبول. قيل لنا أضنة جيدة، ويتحدثون بالعربية أحسن من بقية المناطق، لكن طقسها “مشوب”. اليوم حجزنا في فندق لقضاء الليلة، وغدا نبحث عن منزل من طريق السماسرة. نأخذ شقة مفروشة أو من دون فرش، نؤثثها من الفرش المستعمل الذي يباع في الأسواق. نستقر ثم نرى ماذا نفعل بدراسة الولدين وبتأمين عمل ربما… لا أعرف. لكن الذي أعرفه أنني لن أعاني من مشكلة الكهرباء ولا من انقطاع البنزين والغاز، وسأجد لقمة طيبة آكلها وطبخة لا أقنّن في موادها ولن أخاف من عدم وجود ربطة خبز”.

تنظر حولها متسائلة: هل برأيك هؤلاء المسافرون سيعودون بعد اليوم؟ وتجيب نفسها: لا أعتقد ذلك، إنهم يهربون مثلنا… هم أيضا موجوعون، بعضهم يريد أن يعمل، بعضهم يريد أن يدرس، بعضهم يريد الحصول على دواء، بعضهم يريد راحة البال والعيش بعيدا من ميليشيات البنزين، التي تكاد تفجر حربا أهلية جديدة… هل أدع ابني يموت من أجل غالون بنزين؟ لا سأفعل ما بوسعي لإنقاذه من المحرقة، “بي الكل” يحرق أبناءه ويتفرج عليهم من قصر بعبدا بلامبالاة أو اهتمام بشعبه العظيم، “هتلر افندي”.

خسارة رفاهية العيش

الكثير من اللبنانيين الذين دفعتهم الأزمة إلى الهجرة يبحثون عن مكان يستقرون فيه ولو موقتاً، بلد يستطيعون الاستشفاء فيه وإيجاد الدواء بدلا من الموت على الأبواب لربما يتغير الحال أو يشعر رؤساؤه وزعماؤه بمعاناة الناس فيستقيلون، لعله يكون حلا مناسبا لالتقاط النفس والإتيان بوجوه جديدة قادرة على اجتراح أمل جديد في حياة كريمة للمواطنيين اللبنانيين.

تركيا هي واحدة من البلدان التي يفضُلها اللبنانيون، باعتبارها قريبة وثمن الرحلة إليها بالطائرة أقل كلفة. في السابق، قبل الحرب السورية، كان اللبنانيون يدخلون تركيا عبر حدودها مع سوريا. أما اليوم فتصل الكثير من الرحلات الجوية محملة بعائلات لبنانية بأكملها تنوي الاستقرار في هذا البلد، وهي كانت الوجهة الأولى سياحيا للبنانيين سابقاً حين عاشوا رفاهية العيش ما بعد العام 2000، وقبل أن يطلق “حزب الله” ميليشياته “المقاومتية” لتقاتل في الخارج بأمرة الحرس الثوري الإيراني.

خلال الشهرين الأخيرين، هرول اللبنانيون بأعداد كبيرة نحو تركيا بسبب تدهور الأوضاع والأزمات التي لا تنتهي، أزمات باتت تطال كل شيء، وهربا من التعاسة والتوترات التي تحصل في الشوارع وتهدّد السلم الأهلي في أكثر من منطقة ومكان. صحيح أن النخب ترحل، وقد بات الفراغ في لبنان يتحكم بكل المؤسسات الطبية منها والتعليمية والإنتاجية، من مصانع وشركات وقطاعات حيوية، لكن الأصح أن الشعب اللبناني بمعظمه، بغض النظر عن انتمائه لأي طائفة أو حزب، لم يعد باستطاعته تحمل “تمسحة” مشاعر من بيدهم الحل والربط. ربما لأن مخططهم الأساسي هو دفع الناس إلى الهجرة، وعليه يمكن فهم إشارة عون المستفزة: “اللي مش عاجبو يفل”.

مافيات الإقامات والهجرة

ليس بإمكان كل من يسافر إلى تركيا للاستقرار أن يفلت من سماسرة يعملون على الترويج عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن عروض تأمين عمل وإقامات مقابل مبالغ مالية تراوح ما بين 400 و600 دولار، لكن بحسب لبناني مقيم في تركيا منذ فترة يؤكد لــ”لبنان الكبير” إنه لا يمكن الحديث عن تأمين إقامات عمل، فتركيا تقدم إقامات سياحية لمدة سنة واحدة لمن يستأجر منزلاً فيها، ولا يمكن لأي لبناني أن يعمل هنا إذا لم يعرف اللغة التركية، واذا كان عنده رأسمال ورغب في فتح مصلحة خاصة، لنقل فرن مثلاً، عليه توظيف 6 عمال أتراك مقابل عامل لبناني، والتزام قانون العمل التركي بالشروط الاجتماعية والصحية، لأن فتح مصلحة يحتاج إلى التزام القواعد، ومنها مثلا تأمين وجبة ساخنة للعاملين إذا كان الدوام أكثر من خمس ساعات”.

ويحذر من قيام اللبنانيين بالعمل من دون تصريح، لأن القانون التركي صارم، وعقوبة ذلك السجن ودفع غرامة مالية والترحيل الفوري مع غرامة، وعدم السماح بالدخول إلى تركيا من 6 أشهر إلى 7 سنوات”.

يبحث اللبنانيون القادمون إلى تركيا عن الحياة السهلة والخدمات، وقد “يتشاطر” بعضهم فيقدم على التعامل مع “تجار إقامات” على أساس أنه يريد تسهيل أموره، حتى وإن دفع مبالغ مالية بالدولار، ومنهم من خسر نتيجة ذلك، علما أن القانون واضح، وبإمكان أي لبناني القيام بكل الإجراءات للحصول على الإقامة السياحية من دون الحاجة لوسيط قد يوقعهم في مشاكل تؤدي إلى سجنهم وترحيلهم.

التجنس… العيش والعمل

في العام 2019 مع اندلاع ثورة 17 تشرين تخوفت “أم أحمد”، من جذور تركية تقيم في لبنان، من الأوضاع، ولا سيما إثر أحداث الشياح ـــ عين الرمانة، التي كادت تتجدد نتيجة استفزازات أصحاب الموتوسيكلات في المنطقة، فقررت المجيء إلى منزل والدتها في منطقة “بورصة” التركية لتريح أعصابها كما قالت. ثم نتيجة تدهور الأوضاع قررت البقاء في تركيا والعمل على إعطاء الجنسية لزوجها وأولادها الثلاثة، وهكذا كان، إلا أن الزوج والابن لا يزالان يقيمان في الشياح، حيث يقع منزلهما بانتظار أن ينهي الابن دراسته، أما هي فقدمت مع الابنتين واستأجرت منزلاً في مقاطعة “يالوفا”، وحصلت ابنتها التي انهت الثانوية العامة في لبنان على عمل في مقهى، ريثما يتحسن الوضع المادي وتتسجل في الجامعة، بعد أن تتمكن من إتقان اللغة التركية جيداً. أما الأخت فهي أيضا تبحث عن فرصة عمل، ولاحقا ستكمل دراستها في المحاماة، فيما سيحضر الوالد والابن لاحقا ليدبروا الأمور كعائلة موحدة.

وتبحث الوالدة المتخصصة في علم النفس التربوي عن مدرسة لتعلم فيها، وتقول: “أنا شخصيا لا أفكر في العودة إلى لبنان، الأولاد يقررون ما يناسبهم، لكننا في ظل هذه الأزمة لا أحد يفكر منهم بالعودة. ربما لاحقا إذا تحسنت الأوضاع. هنا بلد نظامي، دولة حقيقية، الإيجارات سهلة، إذا مرضنا فأي مستشفى يمكن أن يستقبلنا ولا نموت على أبوابه، هنا أمان. ابنتاي تخرجان ليلاً وأنا لا أعيش حالة اضطراب وقلق، فالشرطة منتشرة وجاهزة للتدخل”.

وتوضح أنها “أرادت العيش في هذه المنطقة، إلا أن معظم اللبنانيين يختارون إسطنبول طمعا في إيجاد فرصة عمل، مشيرة إلى أهمية التواصل مع الجالية اللبنانية في تركيا والتعرف إلى القوانين التركية وعدم مخالفتها طمعا بهجرة سرية إلى أوروبا، مثلما يفعل السوريون الذين جاؤوا إلى تركيا وهربوا إلى ألمانيا أو فرنسا، وحصلوا على جنسيات، ومن ثم عادوا إلى تركيا لأنها أرخص لهم معيشيا”.

علي. ح. من الدراسة إلى العمل

كان علي.ح. على وشك إنهاء سنوات دراسته الجامعية في سابانجا، إلا أن تدهور الأوضاع المعيشية والأزمات المالية والاقتصادية، أثر في قدرات العائلة التي كانت ترسل له نفقات إيجار المنزل وكلفة الدراسة، على الرغم من أن الجامعة تركية، فطلب منه والده وهو أحد العناصر في الجيش اللبناني، تقاعد قبل ثلاث سنوات، ووضع بالبنك تعويضه بالليرة اللبنانية، وعندما ارتفع سعر الدولار لم يعد بامكانه تأمين ما يلزم حتى يستطيع ابنه علي الاستمرار في دراسته، فعاد الابن إلى لبنان.

يقول لنا الشاب علي.ح.: “لم أكن أتخيل حجم البؤس الذي تعيشه عائلتي وأهالي بلدتي واللبنانيون جميعا، كان شيئا خياليا بعض الشيء، الكل حزين، متوتر، خسر ما يملكه وأصبح غير قادر حتى على شراء ربطة خبز، حالة أشبه بفيلم غرائبي عن الجوع حين يزحف ليرمي البشر في أتونه الحارق”.

نسأله كيف عدت ولماذا؟ يجيب: “جربت الاستقرار في لبنان، عملت في مصنع غندور 12 ساعة عمل، دفعت كل راتبي أجور نقل، وبقي من معاشي عشرون ألفا. لذلك اتصلت بأصدقاء لي دبروا لي عملا في مطعم في المنطقة التي كنت أسكن فيها هنا. صحيح أن الراتب ليس كبيرا، ولكن كل شيء مؤمن. ولاحقا سأرى كيف سأتابع دراستي من دون أن أكون عبئا على العائلة”.

يهرول اللبنانيون اليوم إلى تركيا، تحسبا لاحتمال مفاجئ باتخاذ السلطات التركية قرارات من نوع فرض الفيزا على اللبنانيين القادمين إلى تركيا كما حصل مع السوريين أخيرا، والواضح أنه من الصعب حالياً تحديد أرقام المهاجرين من لبنان بشكل عام، ومنهم المهاجرون إلى تركيا، حيث تستقبل تركيا أعدادا من اللبنانيين، حتى أن إحدى العائلات اللبنانية التي وصلت حديثا إلى إسطنبول كانت قد استأجرت منزلا قبل قدومها، فوجدت أنه في الليلة التي وصلت فيها إلى المبنى عينه الذي ستعيش فيه، ست عائلات لبنانية أخرى التقت عند مدخل البناية، وكانوا على متن الرحلة عينها.

هل هي بداية رحلة جديدة من سردية الدياسبورا اللبنانية، وهل كتب على اللبنانيين الهروب الدائم من مآسي الوطن إلى جراحات المنفى والاغتراب!

شارك المقال