هم أغنياء… وهو مات جائعاً

وليد طوغان
وليد طوغان

فى السلفادور والبيرو والإكوادور، أصدروا طبعة ثانية قالوا إنها منقّحة ومَزيدة من مذكرات “اليدا”، زوجة الزعيم الشعبى الراحل ونموذج أميركا اللاتينية فى الكفاح ضد الاستعمار، الأميركى إرنستو تشي غيفارا.

وفي الولايات المتحدة، صدرت الأسبوع الماضى نسخة جديدة بالإنكليزية، لنفس الطبعة من المذكرات.

الذي حدث، أن المذكرات قلبت الدنيا، وأدخلت الأوساط فى أميركا الجنوبية فى سجال وجدال، ووصلت الأمور إلى المحاكم. أرباب الشيوعية والماركسية لجأوا إلى القضاء، وكل همهم وقف تداول الكتاب، بينما لجأ أحباب الاستعمار وأعوانه، من الأجيال الجديدة، المتجهون بالجوارح والأفئدة نحو الأميركيين إلى القضاء أيضاً، وكل همّهم، وقف كل محاولات الشيوعيين وقف تداول الكتاب.

وفى الطبعة الجديدة، قالت أرملة غيفارا السيدة إليدا إنها حذفت وأضافت وذكرت أشياء نسيتها فى الطبعة الأولى، لكن المذكرات رغم نفادها من الأسواق، لم تكن محل تقدير الكثيرين.

الشيوعيون قالوا إن زوجته تريد ركوب قطار الشهرة السريع، وهي في السبعين من عمرها بتزييف سيرة مناضل شريف مات دفاعاً عن وطن، باعته فيما بعد هي وأمثالها. وقالوا إن الكتاب مؤامرة، وإن “الفلوس السبب”.. لكن اليدا من جانبها قالت إنها لم تذكر إلا صفحات مجهولة من حياة زوجها، وإنها أرادت الاحتفال بغيفارا على طريقتها.

على كل، لم تكن المذكرات مرثية جيدة لرجل مات عام 1967 فى بلد غير بلده، من أجل قضية ليست قضيته… ودفن فى قبر ليس قبره.

السبب أن غيفارا بدا فى مذكرات زوجته “صايع دولي”، مع أنه لم يكن كذلك. وظهر أنه “مجنون”، رغم أن هذا ليس صحيحاً. لكن أرملته قالت إنها تعرف أكثر… والمثل الدارج فى مصر يقول: “يا ويل من كانت بلوته مرته”.

عرفت إليدا إرنستو غيفارا عام 1959، عندما كان يدرس الطب فى الأرجنتين… ولما تزوجا ظل يقنعها بقيمة الحياة من أجل الآخرين، وحدثها عن “الإمبريالية” و”صراع الطبقات” و”نظريات كارل ماركس “… ولم تفهم هي اي شيء.

كل ما كانت تريده اليدا، كامرأة عادية وأكثر من عادية… هو الأطفال، وبيت مستقر، وحياة زوجية سعيدة، ومدارس وواجبات منزلية ونوم هادئ بعد العاشرة مساء.

غيفارا كان بطلاً قومياً، لكن إليدا كانت “ست بيت”… ولا تعرف فى العادة ستات البيوت البطولة إلا فى أفلام السينما، وفى زوج قادر على توفير ألبان لأطفالها.

لذلك لم تعش اليدا مع غيفارا طويلاً… وانفصلت عنه قبل أن يتحول هذا الرجل الذي لم تحبه، إلى أيقونة ونموذج للعالم كله فى الخمسينيات والستينيات.

ولما كتبت اليدا المذكرات، أوحت للقارئ أنها أحبت كارثة، ثم تزوجت كارثة… وظلت طوال 8 سنوات من الزواج، تنتظر فيها كارثة أن يأتى على العشاء، بينما لم تأت الكارثة إلا مرات قليلة.

فقد كان غيفارا شديد الإيمان، شأن معظم شباب اليسار ورموزه ذلك الوقت، بأن البيت والأولاد والأمومة والعلاقة الزوجية هى الوطن والبندقية نصف الآلية. لذلك ترك بلده الأصلي الأرجنتين، وترك عمله الأصلى فى الطب، وترك الزوجة وأحلامها، وانضم إلى المقاومة ضد “الإمبريالية” فى أرجاء دول أميركا اللاتينية، حتى دخل كوبا مع الثوار… مبتهجين بالنصر فى معركة ضد الاميركيين وأعوان الأميركيين.

ولما دخل غيفارا كوبا منتصراً مع الثوار، عيّنوه وزيراً، لكنه ترك الوزارة وانضم إلى الثوار فى بوليفيا، مرة أخرى ضد الأميركيين وأعوانهم… لذلك قالت اليدا فى الكتاب إن غيفارا كان مؤمناً بثورة لا تهدأ، وإنه أحب البندقية نصف الآلية أكثر من الاستقرار.

الشيوعيون يقولون إنها سيدة “قلبها أسود”، وإنها أرادت الانتقام… من رجل دوّت شهرته، بعدما تركته وتركها، وإنها تريد أن تستعيد فى آخر حياتها ارتباطاً كانت قد أنهته بإرادتها… من زمان.

ربما صحيح… وربما كلام إليدا هو الصحيح… لا شيء مؤكداً، لكن المؤكد أن سيرة غيفارا تحولت طوال 50 عاماً إلى “قطار شهرة ” حاول كثيرون القفز فيه وهو يجري.

فلما مات غيفارا، توالى الظهور المفاجئ لأشخاص يحكون عن علاقاتهم وأسرارهم ومغامراتهم معه… وكانت غالبيتها قصصاً وهمية، أبطالها مليونيرات تربّحوا من الدخان والمخدرات ثم أرادوا لأنفسهم تاريخأ مشرفاً.

عام 1976 كتب بريمييرا زعيم المافيا الإيطالية مذكراته، وفيها صفحات طويلة عما أسماه مغامرات مع غيفارا .

الشيء نفسه فعله كارميلوا فيرا الابن الأكبر لـ”مارشيلوا فيرا” امبراطور الكوكايين فى الإكوادور… حكى هو الآخر قصصاً طويلة مع غيفارا، وكتب كلاماً لم يكن يليق أن يكتبه… خصوصاً وأن غيفارا مات، ولا يستطيع ميت الرد على ما يكتبه الأحياء.

كثيرون كذبوا، وكثيرون حاولوا التربّح من سيرة مناضل، عاش وحيداً، ومات شريفاً. وكثيرون ظهروا أمام كاميرات التلفزيون بـ”كروش” وخواتم ذهب يحكون عن صداقتهم بـالرجل… بينما مات وهو حافٍ وجائع.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً