العلاقة مع دول الخليج ليست بخير. هي أزمة ديبلوماسية جديدة – قديمة تسبب بها هذه المرة وزير الإعلام جورج قرداحي. الوزير المحسوب على محور الممانعة كان قد أدلى بتصريحات فاضحة حول حرب اليمن مطلقاً مواقف عدائية تجاه دول الخليج، ومتّهماً إياها بالاعتداء على الأراضي اليمنية، فقطع بذلك “شعرة معاوية” بين لبنان الرسمي ودول مجلس التعاون الخليجي بعد سلسلة إخفاقات بدأت بشحنات الكبتاغون ولم تنتهِ بتصريحات الوزير السابق شربل وهبة.
صحيحٌ أن قردحي أدلى بالمواقف هذه قبل تعيينه وزيراً، وان إطلالته عبر برنامج “برلمان الشعب” سبقت مراسيم التشكيلة الحكومية بأكثر من شهر، قبل ان يعاد بثّ الحلقة مؤخراً. إلّا أنه كان بإمكانه أن يجنّب لبنان الرسمي والشعبي تبعات أزمة كهذه بالاعتذار الفوري. لكن قرداحي لم يعتذر، بل على العكس أطل بمؤتمر صحافي كان أشبه بتأكيد لمواقفه السابقة، فيما تولى عرابه السياسي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية مهمة الدفاع معتبراً أنه “لم يخطئ ليعتذر” رافضاً بذلك استقالته، لتزيد هذه المواقف الطين بلّة وتثير موجة جديدة من الاستنكار.
أمّا ردّ الفعل فأتى غير مسبوقٍ في تاريخ العلاقات اللبنانية – الخليجية، إذ طلبت دول مجلس التعاون الخليجي من سفراء لبنان مغادرة أراضيها وسحبت سفرائها من بيروت وطواقمها الديبلوماسية. ولم تقتصر الاجراءات على قطع العلاقات الديبلوماسية بشكل رسمي، إنّما ترافقت مع إجراءات اقتصادية منعت بموجبها المملكة العربية السعودية دخول الواردات اللبنانية إلى أراضيها كما منعت مواطنيها من السفر إلى لبنان.
الأزمة، إذاً، تحمل وجهاً اقتصادياً أيضاً. إذ تشير أرقام سفارة لبنان في المملكة إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2020 قارب الـ600 مليون دولار سنوياً. أضف إلى هذه الخسائر تلك التي سيتكبدها لبنان جراء انقطاع حركة السياحة الخليجية التي أدخلت إلى خزينة الدولة مليارات الدولارات وصنعت شهرة لبنان على صعيد الاستشفاء والتعليم والخدمات التجارية والمصرفية.
كما تشير أرقام “الدولية للمعلومات” إلى أنّ في الخليج العربي قرابة الـ380 ألف لبناني يقيمون بمعظمهم في المملكة السعودية (200 ألف) والإمارات (80 ألفاً) بالإضافة إلى قطر والكويت والبحرين وعمان. هذه الجالية اللبنانية التي ساهمت تاريخياً في نهضة دول الخليج والتي تشكل اليوم عامل استقرار للعديد من العائلات اللبنانية تتعرض لخضّات مستمرة في كلّ مرّة يخطر على بال مسؤول أن يستغل موقعه كممثل للدولة اللبنانية لإعلان ولائه للدويلة وخضوعه لمحور خامنئي – الأسد – “حزب الله”.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنّ دول الخليج، وبخاصة السعودية، منحت مساعدات للبنان بما يقدر بنحو الـ70 مليار دولار منذ التسعينيات حتى اليوم أكان في إعادة الإعمار – بخاصة بعد حرب تموز – أو عبر الهبات المقدمة إلى القوى الأمنية أو عبر الاستثمارات الخاصة، وساندت لبنان في محناته. وبات من المشروع أن نسأل: أين كانت إيران من أزمات لبنان وأين هي اليوم؟ وماذا قدّمت إيران للبنان؟ أليس من الأجدى أن ينشغل السياسيون في حلّ أزمات الداخل بدلاً من التعرض للعلاقات التاريخية مع محيط لبنان العربي؟
إنّ الدول تحركّها مصالحها ومصالح شعبها، أمّا شبه الدولة عندنا فتحركها الأجندات السياسية وتُقرر سياساتها الخارجية كما الداخلية تحت سطوة سلاح تحوّل من مقاومة العدو إلى عدو للشعب ونقيض للدولة.
هذا السلاح الخارج عن الشرعية والسيادة، يحارب في سوريا والعراق واليمن، ويعادي الشعب بالعقوبات التي يستجلبها عليه كما يعادي الأشقاء. هذا السلاح عينه أوجد في السلطة من يتبنى مشروعه ومن ينتزع شرعية الدولة من أجله. والودائع الإيرانية في السلطة كثر: من وزير خارجية “حزب الله” شربل وهبة إلى الوزير الحوثي جورج قرداحي إلى كلّ وزير اعتبر أن “كرامة قرداحي من كرامته” وإلى كلّ من لم يحرك ساكناً لإيجاد مخرج للأزمة، فالسكوت في المسائل السيادية علامة رضا… كفاهم حديثاً عن الكرامة والسيادة، فهم أول من باعوا كرامة الوطن وانتزعوا سيادته وجعلوا الدول تتفاوض على أشلائه.
الدويلة ابتلعت الدولة ولبنان ينجر يوماً بعد يوم إلى الحضن الإيراني. وما أدراكم ما هو الحضن الإيراني! انظروا إلى ما يحدث في فنزويلا لتدركوا. انظروا إلى حال سوريا. انظروا إلى الشعب الإيراني نفسه. فقد بات من المؤكد أن هناك مخططاً لعزل لبنان عن محيطه العربي والدولي. من يتطلع إلى عزلة لبنان وتحويله إلى سوريا جديدة لا يريد أن يكون لبنان لبنانياً بل يريده جزءاً من ولاية الفقيه، أليس هذا هدف من يدّعي المقاومة؟
على أي حال، لبنان “خسر المليون”، لا بل الملايين. فهو خسر واردات لخزينة الدولة بملايين الدولارات وخسر علاقات ديبلوماسية مميزة مع دول الخليج لم تتزعزع منذ الاستقلال، لكن الأهم أنه خسر مرتبة الدولة لينحدر إلى مرتبة الدويلة. فالأزمة “تتخطى تصريحات قرداحي وهي تكمن في سيطرة وكلاء إيران على لبنان”، كما قال وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان. القصة، إذاً، “قصة قلوب مليانة”، والخليج ممتعض من سطوة إيران على القرار السياسي اللبناني. وما هو مطلوب من لبنان، هو أن ينأى بنفسه عن المحور الإيراني لأنه لا يمكن أن يتحمل تبعات هذا الانحياز، والحلّ الوحيد يكمن في الحياد الذي هو في اساس قيام لبنان وجوهره.
ختاماً نسأل: ما ذنب شعب لبنان وشبابه في هذه الأزمة؟ ما ذنب اللبنانيين العاملين في الخليج؟ وإلى متى يصمد الناس بوجه معاصي السلطة وحروبها العبثية؟ حرب اليمن ليست عبثية سيد قرداحي، بل حرب المنظومة التي تمثلها على الشعب هي كذلك!