تنفّس اللبنانيون الصعداء مع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثالثة. ميقاتي، الذي كسر جدار التعطيل الحكومي الممتدّ لأكثر من سنة، توجّه من منبر القصر الجمهوري قبيل توقيع مراسيم التشكيل بكلمة للبنانيين هدد فيها ضمنياً الأطراف الذين في نياتهم عرقلة عمل الحكومة، ملوّحاً بأسلوبه المعهود بإخراجهم عن طاولة مجلس الوزراء.
“يللي بدو يعطّل يطلع برّا”، قالها ميقاتي بالفم الملآن، لكنه لم يقصد وقتها طرفاً معيناً، بل جاء كلامه موجّهاً لمجهولين. أمّا اليوم فالمجهولون الذين توعّدهم ساكن السرايا أصبحوا معلومين: فهم يعطّلون جلسات مجلس الوزراء علنياً ويضعون بذلك رابع حكومات العهد في حالة تصريف الأعمال القسرية.
المأزق الحكومي هذا لم يبدأ إثر التصريحات التي أدلى بها وزير الإعلام جورج قرداحي والتي تسببت بأزمة غير مسبوقة مع الخليج، بل افتُتح فعلياً مع مناقشة ملف تحقيقات مرفأ بيروت في الجلسة الحكومية الأخيرة. ففي الجلسة المذكورة، رفع وزير الثقافة محمد المرضى حدّة النقاش الوزاري مطالباً، من منبر القصر الجمهوري هذه المرة، بـ”قبع” المحقق العدلي القاضي طارق البيطار ووصل إلى حدّ تهديده وزير الداخلية بسام المولوي وحضّه على عدم تنفيذ مذكرات التوقيف التي يصدرها البيطار. الجلسة، التي رفعت وقتذاك لتفادي انفجار الحكومة من الداخل، تلتها أحداث الطيونة وملابساتها وأتت تصريحات قرداحي لتزيد الطين بلّة، مما حال دون استكمال جلسات مجلس الوزراء لمدّة تقارب الشهر.
إذاً، الحكومة معطّلة. ولا بادرة لحلّ قريب، بل الأمور مرشحة إلى المزيد من التشرذم، والأطراف الذين اتخذوا على عاتقهم تعليق عمل حكومة “معاً للإنقاذ” يتشبثون بمواقفهم أكثر فأكثر. فالوزراء الشيعة، ومن خلفهم الثنائي أمل – “حزب الله”، ما زالوا على موقفهم من ضرورة كفّ يد المحقق العدلي رافعين حدّة المواجهة داخل الحكومة وخارجها، في وقت يرفض رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي هذا الموقف ويصران على عدم التدخل بشؤون القضاء. أمّا على خط الأزمة الخليجية، فلا بادرة للحلّ أيضاً، إذ إنّ الإشارات التي أطلقها مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية حسام زكي الذي زار لبنان هذا الأسبوع تدعو إلى استقالة قرداحي كبداية للحل، في الوقت الذي رفض فيه الأخير الاستقالة، مدعوماً من “حزب الله” والمردة، على حدّ التصريح الذي أدلى به من عين التينة بعد لقائة رئيس مجلس النواب نبيه بري.
في المقلب الآخر، يُنتظر من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المعطّلة الكثير الكثير… فهي مطالبة أولاً بإخراج اللبنانيين من الجهنّم التي يعيشونها يومياً من خلال لجم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وتأمين أدنى مقومات الحياة من كهرباء وماء ودواء وغذاء ومحروقات، وجعلها متاحة لجميع فئات المجتمع خاصة الفئات الأكثر فقراً من خلال وضع مشروع البطاقة التمويلية على سكة التنفيذ.
حكومة ميقاتي مطالبة أيضاً وأكثر من أيّ وقت بإصلاح علاقات الدولة اللبنانية مع الدول الصديقة والشقيقة وبخاصة دول مجلس التعاون الخليجي حفاظاً على هوية لبنان وعلى مصالح اللبنانيين العاملين في دول الخليج.
ومن مهمات الحكومة الأساسية إعادة الزخم إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة في سبيل إعداد خطّة تعافي للاقتصاد اللبناني مروراً بالتدقيق الجنائي في مصرف لبنان والوزارات والمجالس وإدارات الدولة كافة.
ومطلوب من حكومة “معاً للإنقاذ” أن تفك أسر لبنان الذي اختطفته السيطرة الإيرانية، وأن تعيده إلى محيطه العربي وتعزز دوره كدولة حيادية، فالعزلة العربية والدولية التي يقبع فيها لبنان اليوم هي بسبب سطوة المحور الإيراني على أمنه واقتصاده وسياساته الخارجية كما الداخلية.
هذه عينة صغيرة مما يطلب من الحكومة، إلى جانب الإشراف على الانتخابات النيابية المقبلة ومتابعة حسن سير تحقيقات الرابع من آب. أما الذي حملته فعلياً الحكومة للبنانيين حتى اليوم فلا يتعدّى الوعود، فـ”العين بصيرة، لكن اليد قصيرة”، على حدّ تعبير ميقاتي نفسه.
ميقاتي اليوم في وضعٍ لا يحسد عليه: فحكومته التي لا يتعدى عمرها أشهراً قليلة عطّلت، وهو يسير بين الألغام ويحاول أن يقف في “الوسط المستقل” على مسافة من الجميع وأن يبقي قنواته مفتوحة في سبيل إيجاد تسوية ترضي الأطراف السياسيين الممثلين في الحكومة.
“ليس لدي عصا سحرية”، يردّد ميقاتي مراراً. نعم يا دولة الرئيس، لا تحلّ عقد لبنان بسحر ساحر ولا يستكين شعبه من ليلةٍ إلى ضحاها. لكن، الطريق مرسوم أمامك. “ماذا يقول الكتاب؟”، هذا ما كان يردّده الرئيس المغفور له فؤاد شهاب، والكتاب هنا، أي الدستور، هو الطريق الذي مكّن الرئيس شهاب من وأد الفتنة والانقلاب.
دولة الرئيس: لبنان اليوم يتعرض لانقلاب على الدستور والقانون والمؤسسات. فافعل ما يقوله الكتاب: لا تساوم على الحق. استدعِ من بنيّته التعطيل واطرحه خارج حكومتك. لا تقبل الدمج بين السياسة والقضاء، واقطع الأيادي التي تريد أن تقبع قاضياً أو تقتل قضية. أخرج لبنان من عزلته ومن سطوة المحاور عليه. وإن تعذر عليك كل هذا، فليكن لك شرف الاستقالة، خدمةً للبنان. اجعل من الدستور عصاك السحرية واسلك طريقه، فهذا الطريق يسلكه فقط رجال الدولة، ومن يحمل لقب “دولة الرئيس” وجب عليه أن يكون من عدادهم.